لم تكن دماء الجنود الأتراك في مدينة إدلب السورية أكثر من مجرد "القسط الأول"، من فاتورة، متشعبة الأبعاد، ينبغي أن يدفعها الديكتاتور التركى رجب طيب أردوغان، بعد سنوات من الدعم التركى الكامل للتنظيمات الإرهابية، في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، سواء في سوريا أو العراق، بالإضافة إلى مقامرات أنقرة، والتي حملت في طياتها تحديا للقوى الدولية الكبرى، سواء من حلفائها في الغرب من جانب أو روسيا من الجانب الأخر.
ولكن بعيدا عن النظرة العامة للسياسات التركية، يبدو أننا نحتاج ربما إلى تضييق رؤيتنا بعض الشيء لتقتصر على المشهد السورى، في ظل أهميته الكبيرة لتحقيق طموحات الديكتاتور التركى، الساعى نحو "أوهام" الخلافة، حيث كانت دمشق أهم رهاناته، بعد اندلاع الربيع العربى، خاصة بعد سقوط مصر في فخ الفوضى في أعقاب أحداث 25 يناير، وتمكن حلفائه الإرهابيين من السلطة، حيث كان سقوط سوريا في يد "الجماعة" نفسها، يمثل خطوة واسعة نحو الهيمنة التي يطمح إليها.
بينما تفاقمت أهمية سوريا بالنسبة لأردوغان بعد ثورة 30 يونيو، التي أعادت مصر إلى الطريق الصحيح، ليفقد "الخليفة" المزعوم صوابه، ويلقى بثقله نحو إسقاط دمشق، أملا في السيطرة عليها، ليزداد جنونه جنونا، عندما تدخل روسيا على خط الأزمة في 2015، لتقوض أحلامه، فيرتكب حماقته الشهيرة بإسقاط طائرة روسية على الحدود مع تركيا، ويقتل طيارا روسيا، ثم بعد ذلك اغتيال السفير الروسى في أنقرة، على الهواء مباشرة، أمام ملايين المتابعين، ليضع نفسه تحت أنياب القيصر.
المشاهد التركية المتتالية في سوريا، منذ الدخول الروسى في 2015، وبعد سقوط جماعة الإخوان الإرهابية في مصر، تمثل انعكاسا صريحا لحالة من عدم الاتزان لدى الديكتاتور، حتى أنه فقد بوصلته، فلم يعد قادرا على التمييز بين حلفائه وخصومه، ففي البداية أقدم على استعداء موسكو، اعتمادا على الدعم الغربى، ثم اتجه بعد ذلك نحو استعداء خلفائه الغربيين، اعتمادا على روسيا التي ارتمى في أحضانها بعد اعتذاره لها.
إلا أن الصراع الأخير على إدلب، ربما كان فرصة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين للثأر لطياره وسفيره اللذين قتلا بأياد تركية، فعلى الرغم من إدارك موسكو أن أنقرة لا يمكنها أن تحرك ساكنا في المشهد السورى دون سماح منها، رغم التصريحات العدائية المتكررة من قبل أردوغان ومسئوليه، إلا أن بوتين ربما رأى أنه حان الوقت لتدفع أنقرة قسطا من فاتورتها، عبر استهدااف الجنود الأتراك في إدلب، ليضع أردوغان فى دوامة جديدة، من الخسائر العسكرية، تضاف إلى سجل طويل من الصفعات الاقتصادية.
وهنا تكمن النظرية الروسية القائمة على ما يمكننا تسميته بـ"سياسة الثأر المذل" عبر الانتقام من الخصوم، فالاعتذار التركى لم يكن كافيا بالنسبة لبوتين، ليتجاوز خطايا أردوغان بحق رجاله، في الوقت الذى يمثل فيه الهجوم الذى أسفر عن مقتل عشرات الجنود الأتراك رسالة مهمة مفادها أن ثمة خطوط حمراء في سوريا لا ينبغي عليه تجاوزها في الأيام القادمة.