محادثات جديدة فى جنيف، بين الأطراف الليبية المتناحرة، أعلن عنها المسئول الأممى غسان سلامة، بهدف رئيسى يتمثل فى وقف إطلاق النار، إلا أن اختيار المدينة السويسرية يحمل فى طياته أهدافا أخرى، ربما تكون بعيدة عن الصراع الليبى، تتمحور حول إعادة الزخم للدور الدبلوماسى الكبير الذى طالما لعبته فيما يتعلق بالعديد من الأزمات الدولية، إلى الحد الذى جعلها "وجهة الدبلوماسية" العالمية، فى إطار هيمنة "المعسكر الغربى" على السياسة العالمية، بدعم من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بالإضافة إلى خفوت دور خصوم واشنطن، على الساحة الدولية، منذ نهاية حقبة الحرب الباردة، والتى تحول العالم على إثرها إلى نظام أحادى الجانب بقيادو الولايات المتحدة، ودعم أوروبا الغربية.
إلا أن "شمس" جنيف غابت فعليا فى السنوات الأخيرة، مع تصاعد دور روسيا، خاصة فيما يتعلق بالأزمة السورية، والتى تمكن فيها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، عبر بوابتها، استعادة قدر من النفوذ فى منطقة الشرق الأوسط، بعد عقود من الغياب، وبالتالى مزاحمة الدور الأمريكى فى المنطقة الملتهبة، مما يفتح الباب أمام دور أكبر لبلاده فى قضايا المنطقة فى المرحلة المقبلة، فى ظل حالة من الانقسام باتت واضحة، داخل أروقة المعسكر الغربى، سواء فى التقارب بين دول أوروبا الغربية وروسيا من جانب، أو حالة الامتعاض بين الغرب الأوروبى جراء التغيير العميق فى المواقف الأمريكية تجاهه، سياسيا عبر توتر العلاقة بين واشنطن وعدد من حلفائها الأوروبيين، أو اقتصاديا، وهو ما بدا فى الرسوم الجمركية التى فرضتها إدارة ترامب على الواردات القادمة من القارة العجوز، أو أمنيا، فى إطار الانقسام العميق داخل حلف الناتو.
منصة "أستانا".. روسيا قدمت البديل لـ"جنيف" عبر سوريا
صعود الدور الروسى على المستوى الدولى، عبر البوابة السورية، ساهم فى ظهور منصة دبلوماسية جديدة، نجح موسكو فى إرسائها، من زخم الدور الروسى فى سوريا، وهى منصة "أستانا"، والتى أطلقتها روسيا كبديل صريح لمنصة الغرب (جنيف)، من أجل المفاوضات الماراثونية حول مستقبل الدولة الروسية، والتى جمعت بين نظام الرئيس السورى بشار الأسد والمعارضة تارة، وكذلك المحادثات بين الدول المتداخلة فى الأزمة، وعلى رأسها أمريكا، والتى شاركت فى عدد من اللقاءات التى عقدت هناك بتمثيل منخفض، عبر إرسال سفيرها فى كازاخستان، إلا أنها تلك الاجتماعات كانت دائما ما تحظى بزخم كبير عبر مشاركة قوية من قبل دول أخرى من حلفاء واشنطن الرئيسيين، سواء من دول أوروبا، أو تركيا، بالإضافة إلى إيران، والتى تعد فاعلا رئيسيا فى الأزمة السورية.
بوتين نجح فى اثارة الانقسام داخل الناتو عبر استقطاب تركيا
ولعل نجاح منصة "أستانا" فى مزاحمة المكانة الدبلوماسية لـ"جنيف" تجلى بوضوح فى قدرتها على استقطاب العديد من القوى، التى طالما تعاملت مع روسيا باعتبارها الخصم الرئيسى لها لعقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى استدراك العديد من أعضاء الناتو، للمشاركة بفاعلية فى جلساتها، وعلى رأسهم تركيا، مما ساهم بصورة كبيرة فى إثارة الانقسام داخل "الناتو"، وهو الأمر الذى تجلى بوضوح فى التضارب غير المسبوق فى المواقف بين الدول الأعضاء فى التحالف الغربى، مما أثار الشكوك الكبيرة حول مستقبله، بعد 70 عام من تأسيسه، خاصة عندما وصفه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بـ"الميت إكلينيكيا"، قبل عدة أشهر، فى تصريح وصفه قطاع كبيرة من المتابعين بـ"الصدمة".
بين جنيف وأستانا.. الحضور الروسى قوى فى الملف الليبى
ومن هنا تبدو أبعاد جديدة للصراع الدولى الجديد، عبر المنصات الدبلوماسية (أستانا وجنيف)، يتجلى بوضوح فى مساعى الأمم المتحدة لاستعادة الزخم للمدينة السويسرية، فى المرحلة المقبلة، عبر الأزمة الليبية، لتثور العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت اجتماع الأطراف المتناحرة فى ليبيا حول مائدة جنيف من شأنه إعادة البريق لمنصة الغرب، فى الوقت الذى نجحت فيه أستانا من فرض وجودها على الساحة الدولية، خاصة وأن الدور الروسى يبقى فعالا فى الأزمة الليبية، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى حضورها القوى خلال مؤتمر برلين، فى ظل مخاوف الغرب الأوروبى جراء تنامى الدور الذى قد تلعبه الميليشيات المتطرفة فى ليبيا، وهو الأمر الذى قد يترك تداعيات عميقة على دول أوروبا الغربية، فى ظل احتمالات زيادة تدفق اللاجئين، وهو ما يثير مخاوف اقتصادية وأمنية كبيرة.
أستانا حظت بزخم دولى كبير إبان الأزمة السورية
الحضور الروسى الطاغى فى العاصمة الألمانية، يمثل مباركة أوروبية صريحة لدور قوى لموسكو فى الأزمة الليبية فى المرحلة المقبلة، خاصة بعد نجاحها المنقطع النظير فى دحض الميليشيات المتطرفة فى سوريا، وهو ما يمثل تغيير كبيرا فى الموقف الأوروبى من الدور الذى لعبته روسيا، عندما أعلنت الاستجابة لمطلب الحكومة السورية، باعتبارها النظام الشرعى الحاكم فى دمشق، بالتدخل العسكرى لدعم الجيش السورى فى مواجهته مع الميليشيات الإرهابية، وهو الأمر الذى استجابت له روسيا، لتستعيد جزء كبير من نفوذها فى الشرق الأوسط، وبالتزامن مع خطط إدارة ترامب بالانسحاب العسكرى من سوريا، لتصبح موسكو فعليا صاحبة اليد العليا على الأراضى السورية.
صراع المنصات.. روسيا نجحت فى كسر "تابوهات" الغرب
ويمثل ما يمكننا تسميته بـ"صراع المنصات" بعدا جديدا للمنافسة الدولية فى الوقت الراهن، حيث حرصت موسكو خلال السنوات الماضية، على كسر "تابوهات" الغرب، عبر استحداث وجهات دبلوماسية جديدة، لا تقتصر على العاصمة الكازاخية (أستانا)، وإنما تمتد إلى الداخل الروسى، حيث جعل الرئيس بوتين من منتجع سوتشى البديع، والذى يقع على ساحل البحر الأسود، مركزا للدبلوماسية الروسية، حيث تعقد فيه القمم الهامة والمفاوضات المارثونية التى تستضيفها الأراضى الروسية، فى محاولة صريحة لكسر "أسطورة" كامب ديفيد، والذى كان شاهدا على العديد من الأحداث الدولية الهامة.
حضور طاغى لبوتين فى مؤتمر برلين حول ليبيا
تغيير المنصات السياسية يمثل فى واقع الأمر قيمة رمزية كبيرة لموسكو، فى تعاملها مع محيطها الدولى، حيث أنها تقدم إشارات واضحة لنهاية حقبة الهيمنة الغربية، وصعود قوى دولية يمكنها المشاركة فى قيادة النظام الدولى فى المستقبل، وهو ما لا يقتصر فقط على اختيار مواقع التفاوض، وإنما كذلك دعم بدائل أخرى، لمنصات أخرى تقليدية، حتى وإن كانت تحمل عداءً لروسيا، على غرار الدعم الروسى لمبادرة ماكرون قبل أكثر من عام بإنشاء جيش أوروبى موحد، لمواجهة خصوم أوروبا الغربية، وعلى رأسهم موسكو، على اعتبار أن مثل هذه المبادرة تقدم بديلا لـ"الناتو" الذى يمثل بقائه كابوسا لروسيا، باعتباره رمزا لنهاية الامبراطورية السوفيتية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة