على الرغم من طغيان الانقسام الذى يهيمن على أروقة السياسة الأمريكية، على المشهد أثناء خطاب "حالة الاتحاد"، والذى ألقاه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أمام أعضاء الكونجرس بشعبتيه، فى الساعات الماضية، إلا أن ثمة أبعادا أخرى، ربما لم يلتفت لها قطاع كبير من المتابعين، كان فيها الضيوف الذين تمت دعوتهم لحضور الخطاب "الأشرس" على الإطلاق، بمثابة "الأبطال"، وهو ما يرجع فى جزء كبير منه إلى محاولات الرئيس الأمريكى الاستقواء بهم، فى مواجهة خصومه، والذين يمثلون الأغلبية فى مجلس النواب، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار العديد من العوامل الأخرى، وعلى رأسها حملة "عزل الرئيس" والتى أطلقتها نانسى بيلوسى، بالإضافة إلى أن الخطاب هو الأخير لترامب أمام الكونجرس قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية، والمقررة فى نوفمبر من العام الجارى.
ولعل ضيوف الرئيس الأمريكى بالكونجرس حملوا مزيجا بين حلفاء فى الخارج، ويمثلهم رئيس حزب "بريكست" البريطانى نايجل فاراج، والذى يعد حضوره بمثابة إشارة صريحة لانتصار رؤيته الدولية، فى ضوء موقفه الداعم لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والذى دخل حيز النفاذ فى 31 يناير الماضى، من جانب، وأنصاره فى الداخل، حيث تراوحوا بين جنود أمريكيين وعائلاتهم، بالإضافة إلى بعض الحالات الإنسانية، التى سعت الإدارة إلى تكريمهم فى حضور الجميع، لاستعراض شعبيته الكبيرة بين المواطنين الأمريكيين، من جانب أخر، فى الوقت الذى تتراجع فيه شعبية خصومه بصورة كبيرة، فى ظل الفشل الذى يلاحقهم، سواء فيما يتعلق بحملتهم لإقصائه أو تشويه صورته.
نزعة إنسانية.. "حالة الاتحاد" تقدم بعدا جديدا لحقوق الإنسان
إلا أن النزعة الإنسانية التى طغت على خطاب "حالة الاتحاد"، تمثل بعدا جديدا، يعد بمثابة محور الرؤية الأمريكية الجديدة فيما يتعلق بمسألة حقوق الإنسان، حيث كانت كيلى هاك، وهى أرملة أحد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا فى العراق، إبان الغزو الأمريكى، بالإضافة إلى نجلها، والذى لم يكن قد تجاوز عمره عاما واحدا، عندما تلقت خبر وفاة زوجها، بينما سرق اللقاء الأول بين الضابط تاونسند وليامز، بزوجته، داخل أروقة الكونجرس، بعد سنوات من الفراق، بسبب انغماسه فى الحرب بأفغانستان، الكاميرات، ليكون أشبه بمشاهد "الحب" التى ربما تضفى المزيد من الإثارة على أفلام "الأكشن" الأمريكية الشهيرة.
جندى يلتقى بزوجته لأول مرة منذ سنوات
يبدو أن الرئيس الأمريكى نجح فى إضفاء طابع جديد، وغير مسبوق، لخطاب "حالة الاتحاد"، والذى ينظر إليه باعتباره مؤشرا للوحدة، بين أقطاب السياسة الأمريكية، والممثلة فى الكونجرس، ليصبح شاهدا على حالة من الوحدة المجتمعية، بين المواطنين، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، خاصة فى ظل حالة الانقسام، التى ربما لا يمكن التغطية عليها بالإضافة إلى استخدامه كفرصة مهمة للتأكيد على فكرته القائمة على تقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى مناطق الخطر بالعالم، فى تحدٍ صريح لرؤى خصومه، بالإضافة إلى تقويض الحملات التشويهية التى تستهدفه منذ بداية حقبته، والتى وصلت فى نهاية المطاف إلى الحملة التى تستهدف عزله، لأسباب سياسية، تنطلق من رغبة الديمقراطيين فى الانقضاض على السلطة.
رؤية عميقة.. ترامب أعاد هيكلة المفاهيم الحقوقية
وتأتى دعوات الرئيس الأمريكى الإنسانية فى خطاب "حالة الاتحاد"، فى إطار رؤية عميقة تدور حول "إعادة هيكلة" حقوق الإنسان، والتى طالما تشدقت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأخرها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بينما كانت تستخدمها كمجرد ذريعة لإضفاء قدر من الشرعية على تدخلهم فى شئون الدول الأخرى، بينما كانت تتجاهل أوضاع مذرية يعانيها الأمريكيون أنفسهم، نتيجة تنامى التهديدات الأمنية والاقتصادية التى تلاحقهم فى الداخل تارة، بالإضافة إلى معاناة الجنود الأمريكيين فى العديد من مناطق الصراع حول العالم، تارة أخرى.
أرملة جندى أمريكى ونجلها
تكريم الجنود الأمريكيين وأسرهم لا يخرج عن الإطار الحقوقى، الذى يسعى الرئيس الأمريكى لإرسائه، منذ بداية حقبته، فى الوقت الذى تلاحقه اتهامات الخصوم له بالعنصرية، بسبب تصريحاته حول المهاجرين، حيث يعد الاحتفاء بهذه الحالات داخل أروقة الكونجرس، انتصارا مهما لرؤيته، حيث نجح فى تقديم معاناة أسر أمريكية، نتيجة سياسات انتهجتها الإدارات السابقة لعقود طويلة، كانت تحمل فى جوهرها انتهاكات انسانية صارخة بحق المواطن الأمريكى، عبر حرمانه من الحق فى الحياة، فى الوقت الذى كانوا ينادون فيه بحقوق الإنسان فى مناطق أخرى من العالم، لأهداف سياسية، فى انعكاس صريح لحالة التناقض فى السياسات الأمريكية.
من العالمية إلى الوطنية.. مشاهد مصورة ترصد التغيير فى المشهد الحقوقى بأمريكا
وهنا يمكننا القول بأن الرئيس الأمريكى اتخذ منحى جديد يقوم فى الأساس على تحويل حقوق الإنسان، من مفهومها العالمى الذى أرساه أسلافه، إلى مفهوم وطنى، يعطى الأولوية للمواطن الأمريكى، وهو الأمر الذى يتجاوز مسألة الحق فى الحياة، إلى الحق فى التنمية والازدهار والرفاهية، وهو ما بدا واضحا فى تخليه الصريح عن دول حليفة، طالما قدمت لها واشنطن الدعم الاقتصادى، لتحقق التنمية والازدهار، على حساب مواطنيها، وهو الأمر الذى ينطبق على قضايا أخرى عديدة، كموقفه من المهاجرين القادمين إلى الأراضى الأمريكية بصورة غير شرعية، بينما يزاحمون الأمريكيين فى أرزاقهم، بل وفى كثير من الأحيان يمثلون تهديدا أمنيا صارخا لهم.
يبدو أن رسالة ترامب، فى خطاب "حالة الاتحاد"، لم تكن مجرد كلمات خطابية، ألقى بها فى حضور أعضاء الكونجرس سواء من المؤيدين أو المعارضين، وإنما كانت عبارة عن مشاهد مصورة، التقطتها الكاميرات، رصد من خلالها التغيير الذى طرأ على المشهد الأمريكى خلال 3 سنوات هى مدة وجوده داخل أروقة البيت الأبيض، منذ يناير 2017، كان فيها المواطن الأمريكى هو الأولوية القصوى على أجندته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة