من الكتب المهمة التى يجب قراءتها كتاب "البنك المركزى فى العصور المختلفة" لزكريا مهران، والصادر عن مؤسسة هنداوى، وفيه يقول "لو رجعنا إلى مصادر التاريخ القديم فيما أمكن العثور عليه من الحفريات لوجدنا أنَّ الإيداع والاقتراض كلاهما قديمٌ فى ذاته قِدَمِ الطَّيبات من الرزق كان الإنسان يستكثر منها، فإن زادت عن حاجته ادَّخرها إلى وقت يفيد منها فيه، وإن امتنعت عليه راح يلتمسها قرضًا أو صدقة ممن يقدر عليها".
فإذا كان الإنسان فى عهده البِدائى فأدوات الصيد والدفاع عن النفس والحبوب هى أثمنُ ما يحرص عليه، وهى لهذا نقوده الأولى التى تبايع بها أيضًا قبل أن يهتدى إلى استعمال الأجرام المعدنية ثم النقود المسكوكة التى بدأَ يضربها الليديُّون — على أرجح الأقوال.
الإيداع فى المعابد
ولمَّا كان من الطبيعى أن يحتفظَ الإنسانُ بتلك السلع، وأن يدَّخِرها لوقتِ الحاجة فى مكانٍ أمينٍ خوف السَّرقة أو الغصب، فقد استودعها المعابد فى أوَّلِ الأمرِ؛ لما فيها من مناعةٍ وقداسةٍ. وكانت معابد قدماء المصريين والآشوريين والبابليين والفرس والإغريق بها أمكنة خاصَّة لحفظ ودائع الأفراد، ولدينا الآن من قطع الخزف وجدران بعض المعابد ما تثبت نقوشه أنَّ تلك المعابد كانت تقبل الودائع وتقرض الأفراد، ممَّا جعل المؤرخين يقطعون بأنَّ معبد «دلوس Delos» ومعبد «أفيز Ephese» ومعبد «ساموس Samos» كانت تؤدِّى الأغراض التى تؤدِّيها شون البنوك فى الوقتِ الحاضر.
لم يكن كاهن المعبد عند قدماء المصريين مجرد رئيس ديني، وإنَّما كان على درجةٍ كبيرةٍ من الاستعداد الاقتصادي، فكان يدبِّرُ للنَّاس أمور معاشهم ويقدِّم لهم المساعدات فى أوقاتِ الضِّيق، ويقوم عليهم بغيرِ قليلٍ من التوجيه الاقتصادى المحلِّي.
وقد أكَّدَ لنا البحث التاريخى صحَّة ما جاءَ فى الكتب المُقدَّسة من أنَّ يوسف — عليه السلام — قد جعله مولاه على خزائنِ الأرضِ المصرية يُعالج أزمة امتدَّت إلى سبع سنوات بسببِ انخفاض فيضان النيل. ومن هذه الحقيقة التاريخية نشأت الأسطورة التى يؤمِنُ بها الإسرائيليون من تعاقُبِ الأزمات مرَّة كل سبع سنوات، وقد حاول كثير من الاقتصاديين أن يُقيموا الأدلة على صحَّتها.
الإقراض عند الإغريق
قلنا إنَّ كهنة المعابد كانوا يُقرِضون المُحتاجين. ويستتبع ذلك أن نعرف هل كانت المعابد تأخذ فائدة على ما كانت تقدِّمه من قروضٍ. اختلف المؤرِّخُون فى ذلك، والرَّاجِحُ أنَّ معابد الإغريق لم تكُن فى أوَّلِ عهدها بالإقراضِ تأخذ فائدة، ولكنها اضطرت إلى أخذِ تعويض عن التأخير فى سداد القرض، فنشأت عن ذلك عادة أخذ الفوائد التى صارت فيما بعد معمُولًا بها على اعتبارِ أنَّها أجر أو استغلال لرأس المال الذى يقترض.
ولسنا نعرف على وجهِ التحقيق الوقت الذى بدأ فيه الأفراد يتَّخِذون الإقراض حرفةً لهم. ولكن من القصص الثابتة أنَّ «هريود» الذى عاش فى القرن الثامن قبل الميلاد قد نصح لمقترض حبوب أن يردَّ لمُقرضه أكثر ممَّا أخذ حتى يُشجِّعَه بتلك الطريقة على تسليفه مرَّة أُخرى إذا احتاج إلى الاقتراض منه.
وكان القانون الإغريقى القديم ظالمًا؛ لأنه أباحَ للمقرِضِ أن يُطالب المقترض بدفع نصف ما استلف زيادة على الأصل إذا لم يسدَّ السلفة فى الميعاد المتَّفَقِ عليه. وعلى هذا أصبحت عملية الإقراض عملية كاسبة يلجأُ إليها نفرٌ من الضعفاء ويتعالى عنها ذوو الههم. ولكنها ما لبثت أن صارت ضرورة تُحتِّمها ظروف التوسع الاقتصادى عند الإغريق فى القرن الرابع قبل الميلاد. وقد حفظ لنا التاريخ أسماء كثير من كبار رجال المصارف الإغريقية؛ فمنهم «بازيون» الأثينى الذى أهدى بلاده أسطولًا مُكوَّنًا من خمسِ مراكب. وقد مات سنة ٣٧١ عن ثروةٍ كبيرةٍ مصرفية قام على إدارتها بعده شريكه «فورميون Phormion» الذى خلَّده «ديموستين Demothene» بدفاعٍ مجيدٍ فى إحدى القضايا الهامة التى رُفعت عليه.
ولمَّا كان الصيرفى الإغريقى يجلسُ ليباشر عمله إلى جوار مائدة خشبية، فقد أطلق الإغريق كلمة ترابيزة Trapezi على المصرف، ولا زالت مُستعملة فى اللغة اليونانية إلى الآن. وترجمتها فى اللغات «طاولة بنك Banco, Taoula» التى صارت علمًا على المصارف إلى وقتنا هذا.
وقد افتنَّ أصحاب المصارف الإغريقية فى الدعاية لأعمالهم، فكتب أحدهم المدعو «كايكوس» على مصرفه أنه يُعامل الأجانب كما يعامل الوطنيين، وأنه مستعد حتَّى فى الليل أن يبدل النقود لمن أراد، وكانت لهم دفاتر يقيِّدُون فيها حساباتهم اليومية ويوقِّع عليها العميل بإمضائه أو خاتمه للمضاهاة عليه عند اللزوم.
وقد عرف القانون الإغريقى نظام إيقاف الدفع المعروف الآن «بالموراتوريوم» فى أوقاتِ الضِّيق والأزمات. وقد تخصَّصَ بعض المدافعين فى القضايا المالية، ورتَّبوا لها إجراءات تؤدِّى إلى سرعة الفصل فيها.