وحده هو نجيب محفوظ من استطاع أن يرسم بكلماته صورا كاملة من المجتمع المصرى، من أفراحه ومعاناته، ولأنه كان منغمس داخل أجواء القاهرة وشوارعها الساحرة، كان رواياته ومادته الأدبية نموذجا فريدا للأديب الذى يجسد ويتنبأ بمصائر مدينته.
وفي ملحمته الشهيرة "الحرافيش" تحدث نجيب محفوظ عن الوباء الذي قضى على حارات مصر وفتك بأهلها، ويرسم بذكاء وموهبة فطرية لديه أحوال المصريين في فيروس كورونا، وكيف يواجهون أخطاره، ومع تفشى فيروس كورونا فى أكثر من 70 دولة على مستوى العالم، وظهور 60 حالة إيجابية مصابة بالمرض فى مصر، والإجراءات الاحترازية التى اتخذتها الحكومة المصرية لمواجهة الفيروس، تذكر البعض ما جاء فى رواية "الحرافيش للأديب العالمى، وكيف جسد حال الوباء الذى ضرب الحارة، وكأنه يتحدث عن "كورونا" الآن، وجاء فى الرواية:
"تفاقم الأمر واستفحل. دبت في ممر القرافة (المقابر) حياة جديدة...يسير فيه النعش وراء النعش... يكتظ بالمشيعين. وأحيانا تتتابع النعوش كالطابور. في كل بيت نواح. بين ساعة وأخرى يعلن عن ميت جديد... لا يفرق هذا الموت الكاسح بين بين غني وفقير، قوي وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل. إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء. وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار ولهجت أصوات معولة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين.
ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت. وبوجه مكفهر راح يقول :
- إنها الشوطة (الوباء)، لا يدري أحد من أين؟ تحصد الأرواح إلا من كتب له الله السلامة.
وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا، ثم مضى يقول :
- اسمعوا كلمة الحكومة!
أنصت الجميع باهتمام، أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟
- تجنبوا الزحام!
فترامقوا في ذهول. حياتهم تجري في الحارة، والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ ولكنه قال موضحًا :
- تجنبوا القهوة (المقهى) والبوظة (الخمارة)، والغُرَز (جلسات تعاطي الحشيش).
الفرار من الموت إلى الموت! لشدّ ما تتجهمنا الحياة!
- والنظافة... النظافة...)
تطلعت إليه فى سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتبلدة.
- اغلوا مياه الآبار والقرب قبل استعمالها.. اشربوا عصير الليمون والبصل.
ساد الصمت، وظل ظل الموت ممتدا فوق الرءوس حتى تساءل صوت:
- أهذا كل شئ؟
فقال حميدو بنبرة الخيام:
- تذكروا ربكم وارضوا بقضائه..
رجع الناس إلى البيوت والدكاكين واجمين، وتفرق الحرافيش فى الخرابات وهم يتبادلون الدعابات الساخرة، ولم يتوقف موكب النعوش ساعة واحدة.