قبل أكثر من خمسمائة عام، وفى شهر يوليو عام 1518، سيطر جنون غريب على مدينة ستراسبورج الفرنسية، ودفع هذا الجنون مئات المواطنين إلى الرقص دون سبب، وجعلهم يقفزون لعدة أيام بشكل مستمر حتى فقدان الوعى أو الموت فى بعض الحالات، ما عُرف باسم "طاعون الرقص" وهو أحد أكثر الأحداث غرابة فى التاريخ.
وحسب ما كتبته "نيد بيانت راى" وترجمته فاخرة يحيى، فإنه فى عام 1518 تفشى مرض فظيع بين البشر سمى "رقصة القديس فيتوس"، بدأت نوبة جنون تجتاحهم وجعلتهم يرقصون ليل نهار إلى أن فقدوا الوعى واستسلموا للموت".
بعد ثمانى سنوات من تفشى الوباء، زار الطبيب والكيميائى "باراسيلسوس" المدينة وذُهِلَ بمسببات المرض الغريب، وفقا لمجلة أوبس باراميروم ومختلف السجلات، بدأ كل شىء مع امرأة واحدة، إذ بدأت "فراو تروفيا" الرقص دون أن تصاحبها الموسيقى فى الشارع الضيق المرصوف بالحصى خارج منزلها النصف خشبى فى الرابع عشر من يوليو، متجاهلة توسلات زوجها لها بالتوقف، واستمرت لساعات طويلة إلى أن صار لون السماء داكنًا ثم انهارت فى موجة إرهاق.
فى صباح اليوم التالى، واصلت تروفيا الرقص على قدميها المتورمتين لساعات طويلة قبل أن يتمكن منها الجوع والعطش، وبحلول اليوم الثالث، تجمع حولها أناس من شرائح مختلفة بأعداد متنامية من الباعة المتجولين، والحمالين، والمتسولين، والحجاج، والكهنة، والراهبات والذين كانوا يتفرجون بطريقة بشعة.
سيطر الجنون على تروفيا لمدة تتراوح بين الأربعة إلى الستة أيام إلى أن تدخلت السلطات الخائفة وأرسلتها بعربة إلى سافيرن على بعد ثلاثين ميلا من ستراسبورغ، تحديدًا إلى مزار القديس فيتوس، وكانوا يعتقدون بأنه لعنها، وقد تتماثل للشفاء بعد هذه الزيارة، ولكن بعد أيام أصيب قرابة ثلاثين شخصا -ممن شهدوا رقصها العجيب- بالجنون والهوس وتمكن الموت من بعضهم.
كلما زادت أعداد المواطنين المصابين بالمرض الغريب، زاد يأس مجلس البلاط الملكى فى تجاوز هذه المعضلة، واعتبر رجال الدين أنه انتقام القديس فيتوس، لكن مستشارى المجلس استمعوا إلى رأى نقابة الأطباء الذين أعلنوا أنه مرض طبيعى ناتج عن زيادة تدفق الدم وفقًا للنظرية الخلطية، لذلك يجب جعل المصابين ينزفون، ويكمن العلاج الذى أوصى به الأطباء فى ترك المصابين يرقصون بحرية. وحسب تسجيل من القرن السادس عشر - ألفه المهندس المعمارى دانييل سبكلين- فإن المجلس أمر النجارين والدباغين بتحويل قاعاتهم إلى طوابق رقص مؤقتة، و"وضع منصات رقص فى سوق الخيول وسوق الحبوب"، بُغية السماح بحركة المصابين وتعجيل شفائهم، كما تم استئجار عشرات الموسيقيين ودُفِع لهم من أجل دقّ الطبول والأبواق وغيرها مع مجموعة من الراقصين الأصحاء، لتشجيع المصابين على الرقص، وبهذا أرادت السلطات توفير الظروف المناسبة لجعل المصابين يشعرون بالإرهاق والإعياء.
جاء هذا الإجراء بنتائج عكسية، إذ اُعتُبِرَت هذه الحالة خارقة للطبيعة عن كونها حالة طبية، واعتقد المتفرجون للحالات المسعورة بأنها إثبات لحجم لعنة القديس فيتوس، ولم يسلم أحد من البلاء، فقد دُفِعَ العديد من الناس إلى هذا الجنون، وحسب تأريخ عائلة إيميلين؛ فقد تمكن الوباء من أربعمائة فرد فى غضون شهر.
كما أمر المجلس بجمع أسوأ الحالات فى عربات وترحيلها إلى ضريح القديس فيتوس، إذ عولجت فراو تروفيا! كما وضع الكهنةَ المصابين الذين كانوا يضربون بأجسادهم كأسماك على اليابسة تحت نقش خشبى لفيتوس، ووضعوا على أيديهم صلبانًا صغيرة وأحذية حمراء على أقدامهم، وسُكِبَت مياه مقدسة وزيت مبجَل على باطن هذه الأحذية، وصاحبت هذه الطقوس أجواء من البخور والتعويذات اللاتينية لجلب التأثير المطلوب، وسرعان ما تناقل الناس هذا الخبر فى ستراسبورغ، ما أدى إلى زيادة الحجاج الذين ذهبوا إلى سافيرن طلبًا لمغفرة فيتوس، وقد تضاءل عدد المجانين بالرقص فى غضون أسبوع أو نحو ذلك. استمر وباء الرقص لأكثر من شهر، من منتصف يوليو إلى أواخر أغسطس -أو أوائل سبتمبر- وفى أوج البلاء، كان يصل عدد الموتى إلى خمسة عشر شخصًا يوميًا، والحصيلة النهائية غير معروفة، ولكن إذا كان معدل الوفيات اليومى هذا صحيحًا؛ فقد يكون عدد الموتى من هذا البلاء بالمئات.
وبرأى "باراسيلسوس" فقد كان السبب هو رغبة فارا تروفيا فى إحراج زوجها هير تروفيا: لجعل الحيلة مثالية وشبيهة جدًا بالمرض، قفزت وغنت بطريقة مقيتة للغاية، ونظرًا لنجاح هذه الخدعة، بدأ العديد من النساء الرقص بنفس الطريقة لإزعاج أزواجهن، طريقة الرقص تلك كانت داعمة لأفكار "البذاءة والوقاحة والحرية" وحسب باراسليسوس فقد صنف الرقص لثلاثة أنواع، الرقص الحاد والناجم عن الرغبات الحسية دون خوف أو احترام، والرقص الخيالى والناتج عن الخيال والغضب والشتائم، والرقص الطبيعى والأكثر اعتدالًا الناتج عن أسباب بدنية.
ويعتقد العديد من المؤرخين المعاصرين أن سبب وباء الرقص فى العصور الوسطى هو الأرغوت، وهو عفن يؤثر على العقل ينمو على سيقان نبات الجاودار المبللة، والذى يسبب ارتعاشات وارتجاجات وهلوسة، وتعرف هذه الحالة بـ"حريق القديس أنطونى"، وعلى أية حال، فقد تحدث المؤرخ "جون والر" عن فرضية الأرغوت فى كتابه الرائع عن وباء الرقص "وقت الرقص، وقتٌ للموت" الصادر عام 2009 فقال: "نعم يمكن للأرغوت أن يسبب التشنجات والهلوسة، لكنه يمنع تدفق الدم للأطراف بسهولة، فمن المستحيل استمرار المصاب به الرقص لعدة أيام متتالية".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة