فى الوقت الذى يمثل فيه انتشار فيروس "كورونا" خطرا حقيقيا على عدد من بلدان أوروبا، وعلى رأسها إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، نجد أن الخطر الحقيقى أصبح يداهم الاتحاد الأوروبى، في ظل العديد من المعطيات، ربما أبرزها أن المرض أجبر الحكومات على اتخاذ إجراءات من شأنها إغلاق حدودها الوطنية، فيما يخالف قواعد أوروبا الموحدة، التي تبنتها القارة العجوز منذ سنوات طويلة، وهو الأمر الذى يصب برمته في صالح الرؤى التي تبناها خصوم أفكار الوحدة الأوروبية، سواء في الداخل، وعلى رأسهم قوى اليمين المتطرف، أو في الخارج، على غرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ولكن بعيدا عن الإجراءات التي تبدو إجبارية التي اتخذتها دول أوروبا لاحتواء الفيروس المتفشى في أرجائها، نجد أن ثمة سياسات وضعت مستقبل الوحدة الأوروبية على المحك في المرحلة المقبلة، حيث بدت حالة من التخلي ساهمت إلى حد كبير في انهيار مبادئ الاتحاد الأوروبى فعليا، حيث لم تتدخل الدول الأوروبية لدعم نظيراتها المنكوبة، وهو الأمر الذى يساهم بصورة كبيرة إلى زيادة حالة التمرد الشعبى داخل دول القارة تجاه دعاة أوروبا الموحدة في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى بدأ فعلا منذ ما يمكننا تسميته بـ"عصر ما قبل كورونا"، عندما اختارت الشعوب ترجيح كفة اليمين المتطرف عبر الصناديق تارة، وإطلاق الاحتجاجات المناهضة للأنظمة الليبرالية تارة أخرى.
إلا أن تداعيات "كورونا" لن تقتصر على دعم الرؤى التي تتبناها تيارات اليمين المتطرف فقط، ولكنها ستمتد بوضوح نحو المزيد من الانقسام داخل أوروبا الغربية، حيث ستؤدى الأزمة الراهنة والمواقف الدولية منها إلى اختلاف طبيعة التحالفات التي ستتشكل داخل القارة العجوز، بعدما كان الجانب الغربى منها يحمل نفس الاتجاهات فيما يتعلق بالتحالفات، والتوجهات السياسية تجاه كافة القضايا الدولية والإقليمية، منذ نهاية الحرب الباردة، حيث اعتمدت دول الاتحاد الأوروبى نهجا يقوم في الأساس على الدوران في فلك واشنطن في السنوات الماضية، باعتبارها الحليف الرئيسى لهم، وهو الأمر الذى قد يشهد تغييرا كبيرا في ظل متغيرين رئيسيين أولهما المواقف الأمريكية المتغيرة تجاه الحلفاء الأوروبيين، بينما يتمثل الثانى في فشل أوروبا فى إثبات جدوى بقاء اتحادها في مواجهة الأزمة الراهنة.
وهنا تظهر قوى جديدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، تسعى كلا منهما لمزاحمة النفوذ الأمريكي في القارة العجوز، في إطار محاولاتهما لاحتلال قمة النظام الدولى في المستقبل القريب، وهو ما بدا واضحا في استعدادهما لتقديم الدعم للدول المنكوبة بالفيروس، خاصة بعد النجاح الكبير الذى حققته الصين في مجابهة الفيروس على أراضيها، رغم كونها المصدر الذى اندلع منه "كورونا"، وامتد إلى كافة عواصم العالم الأخرى.
ولعل الخروج الأوروبى عن دائرة الوحدة ليس بالأمر الجديد تماما، حيث سبق وأن اتخذت دولا إجراءات تمثل خروجا خجولا عن الوحدة الأوروبية، كالموقف الذى تتبناه دولا أعضاء بالاتحاد الأوروبى تجاه الهجرة، لأهداف أمنية واقتصادية، بالإضافة إلى توجه بعض الدول نحو التعاون مع روسيا، والتي طالما نظرت إليها أوروبا الغربية باعتبارها الخصم الرئيسى للمعسكر الغربى، خاصة فيما يتعلق بالطاقة، بالإضافة إلى توطيد التعاون التجارى بين دولا في القارة من جانب والصين، بعد الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية بفرض تعريفات جمركية على صادراتها، في خطوة تمثل ضربة اقتصادية قوية لهم.