دعا الموظفون إلى إضراب عام، وعقدوا اجتماعا فى الأزهرالشريف يوم 16 إبريل، مثل هذا اليوم، 1919، وفى هذا اليوم أضرب جميع أصحاب الحرف والمهن، وكان لكل طائفة منهم من يمثلهم فى هذا الاجتماع العظيم، حسبما يذكر عبد الرحمن فهمى فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية»، 12 نوفمبر 1918 - 7 يونيو 1919».
انعقد هذا الاجتماع أثناء اشتعال ثورة 1919 التى بدأت شرارتها يوم 9 مارس من نفس العام، وكان الشيخ عبدالوهاب النجار شاهدا عليه، ويسجل وقائعه فى مذكراته «الأيام الحمراء» قائلا: «ذهبنا فى الساعة الحادية عشرة، فلما دخلنا الأزهر وجدناه حاشدا بالناس ورأينا مالا عين رأت، ولا أذن سمعت من مشهد حافل بالأماثل، وغاص بطبقات الناس وأصناف أهل البلاد من العلماء والأعلام والأعيان الكرام والمحامين الأفاضل ورؤوس التجار وطلاب العلم والآباء الروحيين».
يذكر النجار، أن الشيخ مصطفى القاياتى أحد زعماء الثورة وعلماء الأزهر وقف على كرسى، ونادى بمنتهى صوته أنه يفتح الجلسة باسم الله الرحمن الرحيم تحت رياسة العلامة مفتى الديار المصرية محمد بخيت، ثم دعا الشيخ أحمد الغمراوى من علماء الأزهر ليقول كلمته، فقال ما ملخصه إن الأمة المصرية بجميع عناصرها وأجزائهما من أدنى البلاد إلى أقصاها تطلب الاستقلال، ثم تحدث محمد كامل حسين أفندى المحامى المشهور، فخطب بلفظ جهيرولفظ مقنع وعبارة متينة، وبين أن رئيس الوزراء هو الذى ألقى على الناس درس الإضراب لنيل المطالب، فكان دولته أول المضربين كما كان أول العائدين.
كان الأب مرقس سرجيوس الكاهن بالكنيسة الأرثوذكسية، أحد خطباء الثورة ومحرضيها العظام، وكان الجامع الأزهر أحد الأماكن التى يجلجل فيها بخطبه الملتهبة فى دلالة على وحدة المصريين، ويصف «النجار» كلمته فى هذا اليوم، قائلا: «قام سرجيوس وأخذ يتلاعب بأفكار الحضور وعواطفهم بعباراته الطلية الرشيقة، فتكلم عن تلاقى الأجسام وكيف يولد الحرارة، وأن الاجتماع قوة كالجبل المثلث يأبى القطع، ثم تكلم عن رشدى باشا رئيس الوزراء، بعبارة كلها دهاء، فذكر إخلاصه ووطنيته وكيف أنه سن الإضراب عن العمل، وكان أستاذ الأمة فى هذا السبيل، ثم بين أنه كان على اتفاق مع الموظفين فى الباطن وإن كان مباينا لهم فى الظاهر، وأن تهديده للموظفين إنما هو ألعوبة من الألاعيب التى تعلمها من الإنجليز الماكرين الخادعين مدة وزارته، فلا ينبغى أن نلومه على ما يصدر منه من القسوة فى القول، فإن ذلك مكر ودهاء منه».
يضيف النجار، أن «سرجيوس» ضرب فى كلمته مثلا آخر، حيث قال: «رشدى باشا يريد أن ينزل على الموظفين حجرا لا قبل لهم بحمله، ولكن لو نظرنا كما كنا ننظر إلى الأمور ونحن صغار لاستهنا بعمل الوزير، ووطدنا العزم على تحمله مستسهلين كل صعب، فإن الأولاد الصغار كان لهم لعبة يقولون لها «إز»، وذلك أنهم يعمدون إلى حجر طاحون ويضع كل واحد إصبعه تحت الحجر من ناحيته، ويعتقدون أنهم متى وجهوا فكرهم إلى حملة بأصابعهم، وقالوا «إز» فإنه يترفع بأقل مجهودا من أصابعهم، فإذا اتحدت جميع عناصر الأمة هان ذلك القدر النازل عليهم كما هان على الأطفال حمل حجر الرحى».
كان رشدى باشا رئيسا للحكومة منذ 9 إبريل 1919، بعد أن أمره السلطان فؤاد بإعادته تشكيلها بعد استقالته فى أواخر ديسمبر 1918، وفقا لعبد الرحمن فهمى، ويشير «النجار» إلى أن رشدى هدد الموظفين باستقالته حين أعلنوا عن إضرابهم، ولم يعد يتحدث عن الاستقالة قبل تنفيذ الإضراب، لكن الناس يتهمونه ببعض التهم.
يذكر «النجار» أنه بعد كلمة سرجيوس، تحدث قسيس آخر عن طائفة الأقباط الكاثوليك، وحث على الاتحاد والوفاق نيابة عن بطريرك الطائفة، وفى نهاية الاجتماع قرأ كامل أفندى حسين قرار وقعه طبقات الناس عدا الموظفين والأزهريين الطلبة، ونصه: «الأمة المصرية الممثلة فى جمع من العلماء ورؤساء الأديان والنواب والمفكرين والمحامين والأطباء والتجار بالجامع الأزهر الشريف، تقدر جهاد الموظفين فى سبيل استقلال بلادهم حق قدره، وتشاركهم فى جميع مطالبهم بحذافيرها جملة وتفصيلا، وتلقى كل مسؤولية تنتج من رفض طلباتهم على الحكومة، وتعلن أن الوفد الذى سافر برئاسة سعد زغلول باشا لطلب استقلال مصر التام يمثل الأمة تمثيلا حقيقيا، وتعتبر الوزراء مسؤولين أمام الأمة إذا قصروا فى إعلان هذه الحقيقة بصفة صريحة ورسمية، وترجو حضرات قناصل الدول أن يبلغوا هذا لحكوماتهم خدمة للحقيقة والإنسانية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة