قررت نقابة الصحفيين المصرية إحالة الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل إلى لجنة تأديب، يوم 26 إبريل، مثل هذا اليوم، 1953، لإثارته قضية «المصروفات السرية» لبعض الصحفيين، ووفقا لحافظ محمود «مؤسس نقابة الصحفيين المصرية» فى كتابه «حكايات صحفية»: «كانت هذه القضية حقيقة مادية لايمكن إنكارها، وهى أن الدولة كانت ترصد فى ميزانيتها السنوية مبلغا ثابتا فى أبواب الميزانية اسمه «باب المصروفات غير المنظورة» وهو الباب الذى اختفى من ميزانية الدولة ابتداء من ميزانية عام 1952 ،1953..وبعض الصحفيين كان يتقاضى هذه المبالغ باعتبارها تتمة لمرتبه، وبعض أصحاب الصحف كان يتقاضى هذه المبالغ باعتبارها إعانة لنشر الثقافة بين الجماهير على غرار الإعانات التى كانت وزارة المعارف تقدمها للمدراس الحرة، ومع هذا فإن الصحفيين الملتزمين كانوا يرفضون أن يتقاضوا شيئا من هذه الاعتمادات».
فتح هيكل النار على الصحافة المصرية بسبب هذه القضية وطالب بتطهيرها، حسبما يذكر الكاتب الصحفى رشاد كامل فى كتابه «الصحافة والثورة».. وكتب يوم 13 أغسطس 1952 مقالا فى مجلة «آخر ساعة»، وكان رئيس تحريرها، قال فيه: «صاحبة الجلالة الصحافة، وأفراد بلاطها السعيد، يقومون هذه الأيام بدور غريب عجيب، بعض أفراد هذا البلاط السعيد استباحوا لأنفسهم مقعد النائب العمومى، وجلسوا يوجهون الاتهام ذات اليمين وذات اليسار، ويحددون من الذى تعلق رقبته فى حبل المشنقة، ومن الذى يكتفى بوضعه وراء القضبان.
إننى أعتقد- وأنا واحد من أفراد البلاط السعيد لصاحبة الجلالة- أننا- نحن أفراد هذا البلاط جميعا- آخر من يحق لنا أن نصنع هذا، آخر من يحق لهم أن يستبيحوا لأنفسهم مقعد النائب العمومى موزع الاتهام.. آخر من يحق لهم شىء من هذا لسبب واحد.. هو أننا نحن أيضا فى حاجة إلى تطهير، من سوء الحظ أننا- أفراد بلاط صاحبة الجلالة- نملك قوة هائلة نحاسب بها الناس، ولكن تمنع الناس من أن يحاسبونا، ومن سوء الحظ أننا- أفراد صاحبة الجلالة- نملك أن ننقد الآخرين، ولكننا لا نسمح لأحد أن ينقدنا، لأننا نحن الذين نسيطر على ما يجب أن ينشر وما ينبغى ألا تراه عيون القراء، إنى أقولها بصراحة، وأنا أعتقد أنها ستجلب لى متاعب الدنيا والآخرة، إن علينا مسؤولية كبرى فى كل هذا الذى صارت إليه الأحوال، وقد بدأت مصر كلها تنادى بالتطهير، وعلينا نحن أيضا أن ننادى مع مصر بالتطهير، تطهير أنفسنا قبل تطهير الآخرين».
اقتحم الكاتب والمفكر عباس العقاد نفس القضية، فى مقال «عالم الكتابة والكتاب فى حاجة إلى التطهير» بمجلة الهلال- عدد نوفمبر 1952.. مطالبا فيه «الحكومة أن تراجع أضابير الدواوين وتستخرج منها أسماء أصحاب «الرواتب السرية» فى عهد كل وزارة غابرة، وأن تحاسب الوزراء الذين أخذوا من خزانة الدولة مالاً باسم «المصاريف السرية» وكيف أنفقوه وعلى من وزعوه، وكيف استجازوا أن يستعينوا بمال الأمة على تضليل الأمة، وحملها على قبول الرأى المأجور، والثناء الزائف، والفكرة التى يكتبها الكاتب غير مؤمن بها ولا مخلص فى الدفاع عنها».
جدد هيكل الحديث حول نفس القضية فى «آخر ساعة- 15 مارس 1953»، بعنوان «حديث صريح عن صحافة مصر».. وقال: «أحد المسؤولين وجد أسماء عدد كبير من الصحفيين فى كشف المصاريف السرية فى أكثر من عهد من العهود».. أضاف: «أين هى الحقائق؟ وأين هو النقد الذى تنشره الصحافة المصرية الآن؟..أنا أقول، ودعونا نكن شرفاء، إننى لا أجد فى معظم الصحف المصرية الآن من الحقائق والتوجيه والنقد، إلا بقايا ضائعة تائهة فى طوفان من الأكاذيب والنفاق والضعف، فإن تلمس بعضها الشجاعة يوما، لم يخرج عن حدود اصطناع المجد الشخصى الرخيص والبطولات الزائفة».
اختتم «هيكل» مقاله مطالبا: «أوقفوا المصروفات السرية للصحفيين إذا كانت باقية لم تلغ.. انشروا كشوف المصاريف السرية فى كل العهود الماضية.. ألفوا لجانا قضائية لفحص حسابات جميع الصحف لنعرف مصادر تمولها».. أحدث المقال ردود فعل عنيفة، وطالب بعض أعضاء مجلس النقابة بإحالة هيكل إلى لجنة تأديب، وتحددت جلسة يوم 26 إبريل 1953 لمحاكمته، فرد هيكل بمقال أشد عنفا، فى «آخر ساعة» 23 إبريل 1953، تساءل فيه: «أين هو مجلس التأديب الذى أحالونى عليه؟.. أريد أن أقف أمام النائب العام لكى أكرر كل حرف قلته فى المقال الذى أحلت بسببه إلى مجلس التأديب وأزيد عليه».
عقد مجلس النقابة اجتماعا وجمد القرار ورفع الأمر إلى القضاء، وكانت هذه أول دعوى من نوعها ترفعها نقابة الصحفيين ضد صحفى منذ تأسيسها سنة 1941.