الحرب العالمية الثانية
في الوقت الذى تحل فيه الذكرى الـ75 لنهاية الحرب العالمية الثانية، والتي انتصر فيها المعسكر الأمريكي السوفيتى، على قوات المحور، ليسطر العالم وقتها نظاما دوليا جديدا، يقوم على قيادة القوى الرئيسية للمعسكر المنتصر في تلك الحرب، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وبالتالي يتولد من رحمها صراعا جديدا بينهما، على قيادة العالم، في إطار ما يسمى بالحرب الباردة، والتي استمرت لأكثر من 4 عقود من الزمن، لتنتهى في نهاية المطاف على إرساء نظام أحادى الجانب، تقوده واشنطن بمفردها، نجد أن ثمة إرهاصات يشهدها المجتمع الدولى تنبئ عن حقبة جديدة، لن تحظى فيها قوى بمفردها على بالهيمنة المنفردة، في ظل صعود العديد من القوى الدولية، وعلى رأسها الصين وروسيا، بالإضافة إلى مساعى بعض القوى الأوروبية للقيام بدور أكبر في المستقبل.
وعلى الرغم من اختلاف المعطيات بين ما تشهده الحقبة الراهنة، وتلك التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلا أن ثمة تشابه كبير في التداعيات، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى، خاصة في أوروبا، حيث تبقى هناك حالة من الركود، مع ارتفاع كبير في البطالة، أدت إلى الاعتماد بصورة كبيرة على الاقتراض، لتصبح القارة العجوز بحاجة إلى دعم أكبر من قبل شركائها الدوليين، وهو الأمر الذى استطاعت واشنطن الوفاء به منذ 75 عاما، في إطار صفقة، تقوم على تقديم الدعم الاقتصادى لأوروبا الغربية، مقابل الدوران في الفلك الأمريكي في صراعها مع الاتحاد السوفيتى للسيطرة على النظام الدولى، وهو ما تحقق بالفعل بانهيار الأخير في أوائل التسعينات من القرن الماضى، لتهيمن أمريكا على قمة النظام الدولى بمفردها مقابل مزايا اقتصادية وتجارية للشريك الأوروبى، وكذلك للدول الأخرى، التي تقبل الالتزام برؤى واشنطن القائمة على بعدين رئيسيين، أولهما سياسى يقوم على مفهوم الديمقراطية، بينما الآخر اقتصادى يقوم على تطبيق النظم الرأسمالية.
الديمقراطية الرأسمالية.. قوى خرجت من رحم المزايا الأمريكية
وهنا أصبحت الديمقراطية الرأسمالية هي المعيار الذى توزع واشنطن على أساسه مزاياها على العالم، وهو الأمر الذى استطاعت أطرافا أخرى الاستفادة منه، وربما الالتفاف عليه، على غرار الصين، والتي تعد أكثر دول العالم استفادة عبر إيجاد نموذج رأسمالى تقوده الدولة، في مزيج بين التوجه الغربى من جانب، والإرث الشيوعى الذى تعتز به بكين، لتغزو من خلاله أسواق العالم، سواء عبر منتجاتها، أو استثماراتها، فخلقت لنفسها مساحة من المناورة على الصعيد الدولى في مواجهة واشنطن، في ظل الارتباط الوثيق بين بكين، واقتصادات أكثر من 130 دولة حول العالم، لتصبح قوة الصين وبقائها رهانا دوليا مهما للعديد من الدول في مختلف المناطق حول العالم، وهو ما يمثل تحديا صريحا لواشنطن.
الحرب العالمية الثانية
ولعل السياسات التي تبنتها واشنطن، في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ اعتلاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، ساهمت في تقوية النزعة الدولية في التوجه نحو بكين، خاصة بين الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة، وعلى رأسهم دول القارة العجوز، والذين شعروا بجفاء الحليف الأكبر لهم، فيما يتعلق بالإجراءات الأمريكية المتلاحقة، والتي جاءت في خضم تهديدات متواترة، على رأسها اللجوء إلى فرض تعريفات جمركية على الواردات القادمة من أوروبا إلى الأراض الأمريكية، وهو ما يعد بمثابة صفعة قوية لاقتصاد تلك الدول، وهو الأمر الذى امتد إلى أبعاد سياسية وأمنية أخرى، من بينها تهديد البيت الأبيض بالانسحاب من الناتو تارة، والقرارات السياسية أحادية الجانب، التي حملت تجاهلا صريحا للشركاء تارة أخرى.
معضلة كورونا.. الفيروس قدم فرصة لخصوم واشنطن لمزاحمة نفوذها
السياسات الأمريكية، والتي بدأت في مرحلة "ما قبل كورونا"، دفعت قطاعا كبيرا من حلفاء واشنطن، إلى البحث عن بديل، يمكن الوثوق به في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى ساهم في تقوية شوكة الخصوم التاريخيين للمعسكر الغربى، وهما روسيا والصين، حيث تجلت ملامح العلاقة الجديدة، في الاعتماد الأوروبى على موسكو فيما يتعلق بالطاقة، وهو الأمر الذى أثار حفيظة الرئيس الأمريكي، والذى اتهم القارة العجوز بالتبعية لروسيا، بينما أصبحت الصين هي الأخرى شريك مهم سواء لدول آسيا، ومن بينها حلفاء واشنطن، وعلى رأسها كوريا الجنوبية واليابان، بالإضافة إلى دورها الرئيسى في قضايا تمثل أهمية كبيرة داخل القارة، كالمسألة الإيرانية، وكذلك قضية كوريا الشمالية، والتي يمثل إنهائها رهانا مهما للرئيس ترامب، قبل انتخابات الرئاسة المقبلة، والمقررة في شهر نوفمبر المقبل، والتي يراها قطاع كبير من المحللين بأنها الأهم في والأشرس في تاريخ أمريكا.
إلا أن أزمة كورونا فتحت الطريق أمام دور أكبر وأوسع لخصوم واشنطن، وبالأخص الصين، نظرا لتداعياتها الصحية الكبيرة، بالإضافة إلى أبعادها الاقتصادية، فأصبحت الحاجة ملحة للشراكة معها، في ضوء معطيات، أهمها نجاح بكين المنقطع النظير في احتواء أزمة الفيروس القاتل، بالرغم من أنها كانت المصدر الرئيسى لانتشاره، بالتالى ظهرت حاجة حلفاء واشنطن إلى الاستفادة من تجربة بكين في التعامل مع الأزمة، في ظل التخلي الأمريكي عنهم، بالإضافة إلى تفاقم الأمور في الأراضى الأمريكية، في العديد من الولايات.
على خطا الحرب العالمية.. كورونا تصيغ نظاما دوليا جديدا
وهنا يمكننا القول بأن المشهد الدولى بات قريبا للغاية من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فأوروبا صارت في مأزق اقتصادى جراء كورونا، وتحتاج إلى دعم الشركاء، إلا أن الاختلاف هذه المرة يبدو واضحا في موقف الحليف التاريخى، الذى يبدو متخليا عن شركائه، في الوقت الذى تقدم فيه قوى أخرى نفسها كشركاء موثوق بهم، وبالتالي مزاحمة النفوذ الأمريكي في مناطق طالما اعتبرتها واشنطن فناءً خلفيا لها.
الموقف لا يقتصر على الجانب الاقتصادى، وإنما يمتد إلى جوانب أخرى سياسية وصحية، وهو ما ترجمته حقبة كورونا في الآونة الأخيرة، لتصبح شاهدا على صياغة نظام دولى جديد، يشهد تغييرا كبيرا في موازين القوى الدولية في المرحلة المقبلة، في ظل صعود قوى دولية، وتراجع قوى أخرى، تساهم بصورة كبيرة فى تغيير شكل الخريطة الدولية فى المستقبل القريب
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة