التجاوزات الأمريكية بحق المنظمات الدولية ل م تقتصر بأى حال من الأحوال على منظمة الصحة العالمية أو اليونيسكو، او المجلس العالمى لحقوق الإنسان، وإنما امتدت إلى أحد أهم المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهى منظمة التجارة العالمية، والتي أرست قواعد حرية التجارة بين دول العالم، والتي تشكلت ملامحها، قبل تأسيسها بعقود، في إطار اتفاقية "الجات"، والتي أبرمتها واشنطن مع العديد من دول العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في عام 1948، بهدف رفع القيود المفروضة على التجارة الدولية، لتتطور بعد ذلك في إطار الشكل الرسمي للمنظمة والتي تأسست في عام 1995.
ولعل المفارقة الجديرة بالملاحظة، في هذا الإطار، هو أن تأسيس "الجات"، ومنظمة التجارة العالمية، ارتبطا إلى حد كبير، بإرساء حقب دولية جديدة، فالأولى جاءت لتعزيز نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذى فرضت فيه الولايات المتحدة نفسها باعتبارها قوى دولية رئيسية في عالم ثنائى القطبية، يشاركها الاتحاد السوفيتى في قيادته، لتصبح حرية التجارة المبدأ الذى فرضته واشنطن على المعسكر الغربى الذى تقوده، في الوقت الذى تبنى فيه المعسكر الأخر نهجا اشتراكيا، بينما عممت الإدارة الأمريكية المبدأ نفسه، بعد هيمنتها المطلقة على النظام الدولى، مع بداية التسعينات من القرن الماضى، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى.
وهنا يصبح تغيير قواعد اللعبة من جديد مرهونا بصياغة نظام عالمى جديد، حيث اتجهت واشنطن نحو إرساء نظام جديد بصورة أحادية، عبر اتخاذ إجراءات حمائية، على الواردات القادمة إليها من الخارج، فيما يمثل انقلابا على القواعد التي سبق وأن أرستها واشنطن نفسها منذ عقود، بل وكان الالتزام الدولى بها بمثابة انتصارا مهما سطر القيادة الأمريكية للعالم بأسره منذ نهاية الحرب الباردة.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يرى أن القواعد التجارية القديمة لم تعد صالحة للتطبيق، خاصة وأنها ارتبطت في البداية بفوارق اقتصادية كبيرة بين واشنطن ومحيطها العالمى، لصالح الولايات المتحدة، وبالتالي كانت المزايا التي تقدمها واشنطن للدول الأخرى، لا تؤثر على المكانة الاقتصادية المتفردة التي تتمتع بها أمريكا، بالإضافة إلى كونها تقدم في المقابل دعما لبقائها على قمة النظام الدولى، حيث كانت الدول الأخرى تدور في الفلك الأمريكي، لتفرض الإدارات الأمريكية كلمتها على العالم في العديد من القضايا الدولية.
إلا أن ثمة تغييرات كبيرة شهدتها الساحة الدولية في السنوات الماضية، مع صعود قوى أخرى للهيمنة، سواء الصين التي حققت طفرة اقتصادية كبيرة، أو الاتحاد الأوروبى، الذى أصبح يحظى بنفوذ كبير على حساب أمريكا نفسها، لتجد واشنطن نفسها على شفا السقوط الاقتصادى، بالإضافة إلى تراجع مكانتها السياسية إلى حد كبير لصالح قوى أخرى تحولت إلى "نمور" اقتصادية صاعدة.
وهنا أصبحت القواعد التجارية القديمة بمثابة خطر على بقاء أمريكا في مركز قيادة العالم، مما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى فرض رسوم جمركية على العديد من السلع القادمة من الخارج، سواء من الحلفاء، على غرار دول أوروبا الغربية، أو الخصوم، كالصين، ليبدأ العالم حقبة جديدة من "الحمائية".
الإجراءات "الحمائية" في واقع الأمر لن تقتصر على الولايات المتحدة، حيث ستتجه العديد من الدول الأخرى لاتخاذ الإجراءات نفسها في المستقبل، سواء من قبل الولايات المتحدة، كرد على الخطوات الأمريكية، أو ربما يتم تعميمها لحماية أسواقها من غزو المنتجات القادمة من الدول الأخرى، وهو ما يضع العالم على شفا حرب تجارية شاملة في المستقبل القريب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة