يعد الاتحاد الأوروبى هو أحد أبرز المنظمات المهددة بالانهيار، في المستقبل القريب، في ضوء العديد من الإرهاصات، التي لا تعد وليدة اللحظة، حيث بدأت الشكوك تتزايد بصورة كبيرة في مستقبل أوروبا الموحدة، منذ استفتاء الخروج الذى شهدته بريطانيا، في عام 2016، بعد موافقة غالبية البريطانيين على الانفصال عن التكتل القارى، إلا أن الفشل المتواتر في الوصول إلى اتفاق بين قادة القارة، وحكام المملكة المتحدة، أضفى قدرا من الطمأنينة لمؤيدى الاتحاد الأوروبى حول إمكانية فشل صفقة الخروج.
إلا أن "بريكست" أصبح حقيقة واقعة، مع بداية هذا العام، مع دخوله إلى حيز النفاذ في يناير الماضى، بعد سنوات من الجدل والفشل الذى لاحق رؤساء بريطانيا، بدءً من ديفيد كاميرون، حيث كانت نتيجة الاستفتاء بمثابة صفعة قوية لحكومته دفعته نحو الاستقالة، بينما فشلت خليفته تيريزا ماى في تدارك الأمر بعد ذلك، عبر الالتفاف على نتائج الاستفتاء الذى أثار الجدل، من خلال ما يمكننا تسميته بـ"خروج شكلى"، من أوروبا الموحدة وهو الأمر الذى لم يلقى قبولا بين مؤيدى "بريكست"، سواء من أعضاء حكومتها، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، والذى آثر الاستقالة آنذاك من منصبه كوزير للخارجية، أو من البرلمان، والذى رفض اتفاقاتها مع بروكسيل عدة مرات.
ولعل الموقف الأمريكي المناهض للاتحاد الأوروبى، في ظل رؤية الرئيس دونالد ترامب الشعبوية، المناهضة لأوروبا الموحدة، كان واحدا من أهم العوامل التي ساهمت بصورة كبيرة في تحقيق ما يمكننا تسميته بـ"بريكست" حقيقى، في ظل الدعم الكبير لرئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، منذ "انشقاقه" عن حكومة ماى، بالإضافة إلى رفضه التام لفكرة التوقيع على اتفاق تجارة مع لندن، دون أن يكون هناك خطوات فعلية تؤدى في نهاية المطاف إلى انفصال كامل ونهائى بين بريطانيا والتكتل الأوروبى المشترك، وهو الأمر الذى تحقق بالفعل في نهاية المطاف، وتحديدا في يناير الماضى، على يد جونسون.
المواقف الأمريكية ربما لم تقتصر على الدعم الكبير لـ"بريكست"، وانما امتد إلى العديد من الدول الأخرى، عبر المساندة الكبيرة من قبل إدارة ترامب، لتيارات اليمين المتطرف، وهو ما ساهم في اعتلائها السلطة في عدة دول على غرار النمسا والمجر، بالإضافة إلى تصاعد نفوذ تلك التيارات في عدة دول رئيسية في أوروبا الغربية، على غرار فرنسا وألمانيا وغيرها، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا صريحا لمستقبل الاتحاد الأوروبى، في ضوء عقيدة أنصار تلك التيارات والقائمة على مبادئ القومية، والخصوصية الثقافية التي تحظى بها كل دولة، وبالتالي ينبغي الحفاظ عليها.
ولعل القدر لم يكن رحيما إلى حد كبير بأوروبا الموحدة، حيث يبقى تفشى فيروس كورونا في العديد من دول ومناطق العالم، وفى القلب منها القارة العجوز، بمثابة مسمارا جديدا في نعش الاتحاد الأوروبى، في ظل العديد من الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوروبية، ولو بشكل مؤقت، وعلى رأسها إغلاق الحدود، وهو ما يمثل "انقلابا" على المبادئ التي طالما تشدق دعاة الوحدة الأوروبية، لعقود طويلة من الزمن، حيث يرى البعض أن تلك الإجراءات، وإن كانت مؤقتة، إلا أنها تمثل بداية لحلقة جديدة من تاريخ أوروبا، ربما تنقل القارة من الوحدة، إلى حقبة جديدة من الصراع.
لم يتوقف الأمر على الإجراءات التي اتخذتها أوروبا لحماية نفسها من جراء كورونا، وإنما تجلى بشكل أكثر وضوحا مع حالة التخلي الواضحة التي عانت منها الدول التي ضربها الفيروس بصورة كبيرة، منها إيطاليا وإسبانيا، حيث لم تجد الدعم المتوقع من الدول الأخرى، خاصة تلك التي وضعت نفسها على مقعد القيادة القارية لسنوات طويلة، وعلى رأسها ألمانيا، أو تلك الطامحة لدور قارى أكبر في المستقبل، على غرار فرنسا.
وهنا تضاءلت قيمة أوروبا الموحدة، ليس فقط في نظر التيارات السياسية التي تسعى للترويج إلى أجنداتها، وإنما أيضا في رؤية المواطن الأوروبى، وهو الأمر الذى تجسد بصورة صريحة في العديد من المؤشرات، ربما أقربها نتائج الاستطلاعات التي نشرتها عدة صحف إيطالية حول ارتفاع نسبة المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبى في إيطاليا، وذلك بعد تخلى شركاء الاتحاد الأوروبى في ظل محنة كورونا، في الأشهر الماضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة