شارك الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، السبت الماضي، فيديو على وسائل التواصل الاجتماعى تقمص من خلاله مرة أخرى دور المدافع عن الدين الإسلامي، والأمة الإسلامية، داعياً أنصاره إلى الوقوف بجانبه فى مواجهة التهديدات التى تواجه تركيا من أعدائها.
واستخدم أردوغان فى ذلك الفيديو عبارات حماسية لجذب انتباه أنصاره، ومن تخدعهم تلك الشعارات الفارغة، كما هو المعتاد منه دائماً، إذ قال «ليس لدينا أى دَيْن سوى أننا مدينون إلى الله بأرواحنا؛ وإلى أمتنا بخدمتها والعمل على رفعتها وسموها، ولن يكون لدينا أى دَيْن سوى ذلك. مهما فعلوا... لن نحيد عن طريقنا ولن نعود».
ثم نجد أردوغان يتبع تصريحاته تلك بمشاهد يدعو الله فيها بكثرة، ويلوح للجماهير، ويقدم الجنود الأتراك فى ملابس ترمز إلى الدول التركية التى تأسست على مدار التاريخ، ويتحدث إلى الجماهير فى الساحات المجهزة بالأعلام التركية.
الأمة التركية فى حالة حرب!
إنك أن شاهدت تلك الصور واللقطات، تجد فيها تعبيرات تجعلك تعتقد أن تركيا كما لو كانت فى حالة حرب. وأعرض عليكم الآن تعبيراً مما تلفظ به، حيث قال: «طالما أن ربنا يمنحنا الحياة والإمكانية، سنستمر فى العمل معاً على طريق خدمة أمتنا... لأن هذه الطريق مباركة، لأن هذه الطريق جيدة... وبدلاً من أن نقف محنى الرؤوس أمام أمتنا غداً؛ فإننا سوف نقف من اليوم شامخين ضد أولئك الوضعاء المتربصين فى الداخل والخارج. ومهما يكن مصيرنا، فسوف نكون راضين به.
فيديو مخيف؛ وبغض النظر عن الزاوية الذى تنظر منها إليه. كلما رأيناه ـ يجعلنا ندرك ونقول بسهولة أن تركيا تنتظرها أيام صعبة وخطيرة للغاية فى الفترة المقبلة.
لماذا ذلك؟
بحسب موقع "تركيا الآن" التابع للمعارضة التركية، يريد أردوغان أولا بهذا الفيديو أن يوصل رسالة بأنه لن يترك مقعده فى رئاسة تركيا مهما كلف الأمر، فهو يبدو وكأنه يصرخ بأنه لن يترك ذلك المقعد حتى لو اضطر لخوض حروب ومعارك قد تُحَوِّل تركيا معها لبحر من الدماء.
ثانياً؛ يعطى رسالة مفادها أن القوى الخارجية والخونة فى الداخل، وليس هو، هم المسؤولون عن حافة الهاوية التى انزلقت إليها البلاد مؤخراً تحت قيادته.
ثالثاً؛ يحاول أردوغان، فى ظل عدم امتلاكه أى مشاريع هادفة ومثمرة يمكن أن يخبر بها الشعب، استغلال معتقدات المجتمع من خلال إعطاء رسائل تحمل الكثير من الطابع الديني. فعلى سبيل المثال؛ لا يوجد فى الفيديو أى مشاهد أو صور عن افتتاح مصانع تدر دخلاً على الاقتصاد المتهاوى بالفعل. لم نشاهد أيضاً أى صور تتعلق بمصانع الطائرات والسيارات والسفن التى أنشأوها، كما يزعم قبل كل انتخابات.
رابعاً؛ أردوغان، الذى يدعى فى كثير من الأحيان أنه يضع دائماً القومية تحت قدميه دون تمييز لدين أو عرق أو لون على حساب الآخر، يكشف من خلال هذا الفيديو الكثير من القومية التركية والعثمانية التى تتغلغل فى داخله. على أى حال، فإن كلماته إلى أولئك الذين بدأوا بالكتابة على الجبال فى الأيام الأخيرة قائلين «كم أنا سعيد لكونى تركياً» تكشف أن الحيلة الأخيرة والوحيدة لأردوغان هى الدين والقومية. تماماً مثل حكم جمعية «الاتحاد والترقي»، التى استخدمت شعارات عثمانية وقومية منذ مائة عام، متسببة بذلك فى انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية.
رهان أردوغان على الكتلة المتبلدة
تجدر بنا الإشارة إلى أن أردوغان يمتلك كتلة تصويتية متبلدة ومتحجرة التفكير تبلغ حوالى 30 % من الأصوات. وتمنح تلك الكتلة أصواتها له فى كل الأحوال دون أن تكلف نفسها عناء التفكير فى ماهية ذلك الرجل، انطلاقاً من تقديسها له، بحجة أنه رجل متدين بصورة كبيرة، ويفتتح الكثير من مدارس «إمام خطيب» الدينية، ويترك لهم الحرية فى ارتداء الحجاب دون أى تضييق عليهم، بل ويشجعهم على ذلك.
أردوغان.. الدين فى خدمة الانتخابات
أردوغان، من جانبه، يشارك على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أو أثناء كل انتخابات، صوراً ومشاهد يجرى التقاطها له، تارة وهو يقرأ القرآن، وتارة أخرى وهو ينصت إلى الأذان ويقوم بأداء الصلاة بغية ألا يفقد دعم ومساندة تلك الكتلة المخدوعة فيه. وفى بعض الأحيان الأخرى، نجد أردوغان يظهر فى الساحات الانتخابية ممسكاً بالقرآن الكريم فى يده وملوحاً به.
إن تفسير ذلك كله يكمن فى مصطلح واحد موجود فى أدبيات السياسة الدولية يمكن أن نسميه «استغلال الدين كأداة لخدمة أغراض السياسة». وأردوغان يفعل ذلك بالضبط، تماماً مثل الإخوان المسلمين، وحركة النهضة فى تونس، وحزب التجمع اليمنى للإصلاح فى اليمن، والجماعة الإسلامية فى باكستان، وحركة طالبان فى أفغانستان، وتنظيم القاعدة.
تركيا تحولت إلى حطام
ليس من السهل فهم كيف تحولت تركيا إلى حطام فى عهد أردوغان من دون رحيل الرئيس التركي، فمعرفة مدى الدمار الذى تسبب فيه مرهونة بابتعاده عن تولى مقاليد الأمور فى هذا البلد. ولكن بعض الأرقام التى سأعرضها عليكم الآن سوف تكشف لكم ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أبعاد هذا الدمار والخراب:
قبل تفشى وباء فيروس «كورونا المستجد» فى تركيا، كان عدد العاطلين عن العمل حوالى 7 ملايين، وهو حالياً أكثر من 9 ملايين. لذا؛ فإن هنالك واحداً من كل أربعة أشخاص فى سن العمل عاطلٌ عن العمل. هذه هى الأرقام الرسمية، بينما الأرقام غير الرسمية تشير إلى أن العدد أعلى من ذلك بكثير.
تركيا عليها ديون مستحقة وعاجلة خلال هذا العام تقدر بأكثر من 170 مليار دولار، وهى فى حاجة إلى الدولارات لسد هذا الدين. لكن لا توجد أى أموال فى البنك المركزى ولا حتى البنوك الحكومية الأخرى، لأن كل هذه الأموال قد اِسْتُخدمت لإبقاء سعر صرف الدولار تحت حاجز الـ7 ليرات تركية. ومع ذلك، فإن كل تلك المحاولات ضاعت سدى، فقد تخطى الدولار حاجز الـ7 ليرات خلال عطلة نهاية الأسبوع. ومع حدوث ذلك؛ أصبحت صداقة أردوغان مع الرئيس الأميركى دونالد ترمب، هى الملاذ الأخير له من أجل العثور على الدولار.
نصف المجتمع التركى تحت خط الفقر
يعيش أكثر من نصف المجتمع فى تركيا تحت خط الفقر والجوع. كما أن هناك ما يقرب من 20 مليون أسرة يمكنها أن تعيش وتبقى على قيد الحياة فقط من خلال المساعدات التى تتلقاها من الدولة كل شهر. غير أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية يستغلون حاجة الناس هذه من أجل دفع الفقراء إلى التصويت لحزبهم.
جرى إغلاق أكثر من ثلاثمائة ألف مكان عمل خلال الأشهر الأخيرة. كما أن 192 مليار ليرة تركية من حزمة المساعدات التى أعلن عنها حزب العدالة والتنمية، البالغة 200 مليار ليرة تركية (حوالى 30 مليار دولار) ليست فى الواقع مساعدات نقدية؛ لكنها عبارة عن ديون مؤجل سدادها. أى أن الدولة ستؤجل سداد الديون، لكنها فيما بعد ستأخذها بفوائد مضاعفة على قيمتها الأصلية. لذا يجب ألا ننخدع فى أن حجم المساعدات المقدمة هو فى الأساس 8 مليارات ليرة تركية فقط (حوالى مليار و200 مليون دولار).
ثقوب فى رداء أردوغان
لم تعد الديون التى يتم تحصيلها والضرائب التى يجرى جمعها من المواطنين قادرة على سد الثقوب والفراغات التى تنشأ عن طبع وصك العملات دون غطاء من الذهب. ففى الأشهر الثلاثة الأولى، اقترضت الحكومة 23 مليار ليرة تركية من الخارج إلى جانب 43 مليار ليرة تركية أخرى، تضاف إلى الدين الداخلي. وهنا نوضح أن البنك المركزى جمع أرباحاً سنوية فى وقت مبكر تقدر بـ41 مليار ليرة تركية. بالإضافة إلى ذلك؛ قام البنك المركزى بطباعة أموال بقيمة 56 مليار ليرة تركية (أو بعبارة أخرى؛ أموال أكثر من 26 مليار دولار) فأين ذهبت هذه الأموال؟
دارسة تركية : الديكتاتور جعل الأتراك ينفرون من الدين
فى حين يعانى الاقتصاد؛ فإن أكبر ضرر يلحقه أردوغان وحزب العدالة والتنمية بالمجتمع التركى هو أنهم يجعلون الناس ينفرون من الدين.
وفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة «كوندا» التركية للأبحاث، العام الماضي، بلغت نسبة الشباب فى الفئة العمرية بين 15 و29 عاماً، الذين يُصَنَفُون على أنهم «محافظون متدينون»، 32 % فى عام 2008، إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 25 % العام الماضي. وعلى نفس الشاكلة، انخفضت معدلات الصيام خلال شهر رمضان من 77 % إلى 65 %.
تركيا الجديدة.. أم تركيا داعش والقاعدة
إن تلك الدولة التى يسميها أردوغان بـ«تركيا الجديدة» لا شك أنه أقحمها فى العديد من الأمور التى لا ناقة لها فيها ولا جمل؛ وهذا بطبيعة الحال سوف يكون له أثره فى المستقبل على الشعب التركى فى ملفات الدبلوماسية والعلاقات الدولية. على سبيل المثال؛ تلك النشاطات التجارية غير المشروعة لأردوغان وأسرته، وعلاقاتهم المشبوهة مع المنظمات الإرهابية مثل «داعش» وتنظيم القاعدة، وتعاونهم مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل «الإخوان المسلمين»، وكذلك التدخل فى شؤون الدول الأخرى على غرار سوريا وليبيا والسودان واليمن والصومال، كل تلك مسائل سوف تثقل كاهل تركيا وسيكون لها نتائجها الوخيمة فى قادم الأيام.
وفى الختام؛ علينا أن نشير إلى أن أردوغان ـ على الرغم من كل ذلك ـ يمكنه الآن توجيه المجتمع كيفما يشاء بسبب ربط جميع المؤسسات به مباشرة، وسيطرته عليها، من الإعلام وصولاً إلى الجيش والشرطة والاستخبارات والبيروقراطية وما إلى ذلك، إضافة كذلك إلى تحكمه فى الموارد المالية للبلاد. ولكن مع صدمة الانتخابات التى شهدها العام المنصرم واستقالة وزير الداخلية سليمان صويلو، الشهر الماضي، صار مقعد أردوغان فى الرئاسة التركية يهتز بشدة بشكل أكثر من ذى قبل. ولا شك أنه عندما أحس بتأرجح مقعده، صار أكثر عدوانية يتحول نحو الخطابات الحماسية التى تتعلق بقشة الدين والقومية. ولعل الفيديو الأخير له الذى قام بمشاركته هو المؤشر الأكثر وضوحاً على ذلك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة