نقرأ معا كتاب "الفلسفة الألمانية: مقدمة قصيرة جدًّا" أندرو بووى، ترجمة محمد عبد الرحمن سلامة، مراجعة هبة عبد المولى أحمد، الصادر عن مؤسسة هنداوى، وينطلق من فكرة أن الفلسفة الألمانية لا تزال الفلسفة تشكل جوهر الفكر الحديث، ويلق هذا الكتاب الضوء على كبار الفلاسفة الألمان، بما فيهم كانط وهيجل وماركس ونيتشه وهايدجر وهابرماس، فضلًا عن بعض المفكرين الذين لم يوفوا قدرهم من أمثال فريدريش شليجل ونوفاليس وشلايرماخر وشيلينج.
ويرى أندرو بووى أن الفلسفة الألمانية تقدِّم وسائل لفهم العالم المعاصر، لأنها ملمح إشكالى من التاريخ الألمانى، ومنهل مهم لمحاولة التوافُق مع الحداثة، كما أنه يلقى الضوء على القيمة المهمة التى يمكن أن تسهم بها أفكار الفلسفة الألمانية فى معالجة الأحداث والمعضلات الحديثة، بما فيها الهولوكوست.
وإجابة عن سؤال لماذا الفلسفة الألمانية، يقول الكتاب:
تشتهر الفلسفة الألمانية عن جدارة أحيانًا بأنها مبهمة ونظرية إلى حدٍّ بعيد، وكثير منها غاب فعليًّا عن عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية فى الفترة ما بين ثلاثينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ويرجع هذا الغياب في جزءٍ منه إلى الارتياب فى أن هناك تواطؤًا بصورة أو بأخرى بين النازية والفلسفة الألمانية.
ومؤخرًا تجدَّد الاهتمام الحقيقى بشخصيات مثل جورج فيلهيلم وفريدريش هيجل ومارتن هايدجر فى عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية.
وترجع زيادة الاهتمام بالفلسفة الألمانية، على نحوٍ لم يقتصر فقط على الفلسفة الأكاديمية، إلى شعور عامٍّ بالأزمة فيما يتعلَّق بتوجُّه العالم المعاصِر، وترتبط هذه الأزمة بالعوامل الأساسية فيما يُسمَّى غالبًا "الحداثة".
وتظهر الحداثة فى مجتمعات مختلفة فى أوقات مختلفة، لكنها بوجه عام تنطوي على ملامح معينة تميِّزها، وتميل المجتمعات السابقة على الحداثة إلى الاعتماد على صورة تقليدية للعالم ترتكز على علم اللاهوت، وعلى الرغم من أن تلك الصورة تنطوى على صراعات تؤدِّى أحيانًا إلى العنف والتمزُّق المجتمعى، فهى لا تزال تشكِّل خلفيةً مستقرةً إلى حدٍّ كبير لكيفية تجاوُب الناس مع العالم، أما الحداثة، فى المقابل، فتجبر الثقافات على مواجهة نتائج نشأة العلوم الطبيعية الحديثة وأشكال الإنتاج والتبادل الجديدة.
وفي الغالب، فإن التهديد ليقينيَّات النظام القديم له تأثيرات صادمة تجعل الكثيرَ من الناس يتمسكون بمفاهيم هذا النظام الجامدة، فهم يعارضون التغيُّرات التي ينطوي عليها النظام الجديد حتى وهُمْ يستعملون كثيرًا مما تأتى به تلك التغيُّرات.
ولا تتأكد إمكانية الانتقال إلى نظام جديد أكثر استقرارًا إلا بعد وقوع أحداث كارثية تجعل من هذا الانتقال ضرورةً لا مفرَّ منها.
قد تنطبق بعض جوانب هذه القصة على بعض أوجه ازدواجية مشاعر العالم الإسلامي المعاصر تجاه الثقافة الغربية الحديثة، إلا أن المنحى المأساوى غالبًا للتاريخ الألمانى بَدءًا من القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وأخيرًا سقوط جدار برلين عام 1989 ربما يكون النموذج الأكثر وضوحًا لكيفية حدوث التحول إلى الحداثة.
وفيما يتعلَّق بهذا التحول، فإن الفلسفة الألمانية تُفهَم على وجهين، فهي مؤشر مُشْكِل للتاريخ الألمانى، وهي أيضًا مصدر حيوى لمحاولة معرفة الكيفية التى يمكن للمرء بها أن يتقبَّل عالمًا فيه — على حدِّ تعبير كارل ماركس في كتابه "بيان الحزب الشيوعى" عام 1848 — "كلُّ راسخ وصلب يتبخر فى الهواء، وكل مقدَّس يُستباح، وفي النهاية يُجبَر البشر على مواجهة ظروفهم فى الحياة وعلاقاتهم بعضهم ببعض في تجرد وحيادية". ومن ثَمَّ، يمكن أن تكون لطبيعة الفلسفة الألمانية المزدوجة قيمتها فى معالجة الأزمات فى العالم المعاصر.
ويتضح من الأحداث الأخيرة أن الحاجة إلى الدِّين لم تختفِ فى كثير من الأوساط، على الرغم من أن العلم قد قوَّضَ كثيرًا من الأفكار التى حافظت على الدِّين على نحو تقليدى، كما قوَّضت النزعة الاستهلاكية على نحو متزايد العديدَ من القيم الدينية للمجتمعات التقليدية. وعليه، فإن الصراع بين الاحتياجات التى لبَّاها الدِّين سابقًا والآثار الاجتماعية للعلم الحديث والرأسمالية الحديثة هو مفتاح كثيرٍ من مبادئ الفلسفة الألمانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة