في الوقت الذى توقع فيه قطاع كبير من المتابعين والمحللين انهيار شعبية التيارات اليمينية ذات الخطاب الشعبوى، وعودة التوازن السياسى، في الغرب، لصالح التيارات الليبرالية، بسبب التفشى الكبير لفيروس كورونا المستجد، وسوء إدارة الدول التي يحكمها الشعبويون الجدد، والذين تبنوا بدورهم خطابا يبدو مستهينا بالأزمة الصحية العالمية، والتي باتت تمثل تهديدا صريحا للعالم في الأشهر الماضية، هو ما بدا في الزيادة الكبيرة في أعداد المصابين والضحايا في مختلف مناطق العالم، تمكن اليمينيون من تحقيق مكاسب سياسية كبيرة من وراء أزمة الفيروس القاتل، على حساب خصومهم السياسيين، لتتجلى هذه المكاسب في صورة غضب شعبى، في الدول التي يحكمها الليبراليون التقليديون، جراء إجراءات الإغلاق التي اتخذتها الحكومات مؤخرا.
ويتجلى الغضب الشعبى جراء تعاطى الليبراليين مع الأزمة الصحية العالمية، في صورة احتجاجات الغضب، التي شهدتها العديد من الساحات، في دول أوروبا الغربية، على غرار ألمانيا وإسبانيا وفرنسا، وغيرها، وهى الدول التي تتشدق حكوماتها بالنهج الليبرالى التقليدي والقائم على استمرار الإغلاق لاحتواء تفشى الفيروس، بالإضافة إلى مظاهرات متفرقة في بعض الولايات الأمريكية لدعم قرارات الرئيس دونالد ترامب، القائمة على فكرة "التعايش" مع الفيروس، وبالتالي العودة إلى الحياة تدريجيا، في مواجهة معارضة حكامهم، الديمقراطيين، الذين يسعون لإفشال رؤية البيت الأبيض، لأهداف حزبية خالصة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، والتي يراها قطاع كبير من المحللين أنها ستكون الأكثر شراسة في التاريخ الأمريكي الحديث.
نهاية "هدنة كورونا".. الليبراليون فشلوا في اختبار الفيروس
ولعل الاحتجاجات التي باتت تهيمن على المشهد في أوروبا والولايات المتحدة، تمثل نهاية ما يمكننا تسميته بـ"هدنة كورونا"، والتي ارتبطت في جزء كبير منها بالمخاوف من اتساع رقعة الفيروس، ومحاولة الحد من انتشاره، وهو الأمر الذى يمكن تفسيره في توقف وتيرة الاحتجاجات في الشهور الأخيرة، بالدول التي شهدت حالة من عدم الاستقرار، في السنوات الماضية، وعلى رأسها فرنسا، ليتحول الفيروس من مجرد أزمة صحية، تواجه العالم بأسره، إلى اختبار سياسى جديد، وربما أخير، للتيارات الليبرالية، حول كيفية تعاملهم معه، ليس فقط على المسار الصحى المتمثل في احتواء انتشاره، وإنما ليمتد ليشمل العديد من الأبعاد الأخرى، ربما أبرزها كيفية احتواء تداعياته الاقتصادية، على المواطنين، الذى يعانون جراء الإغلاق.
المظاهرات سيطرت على العواصم الأوروبية قبل كورونا
وهنا تتجلى أزمة التيارات الليبرالية، والتي فشلت في الخروج عن الإطار التقليدي في التعامل مع الأزمات، حيث اعتمدت نهج الإغلاق، دون إيجاد استراتيجية مستقبلية للتعامل مع مرحلة ما بعد توقف الحياة، في بلدانهم، والتي تتركز بصورة كبيرة على التداعيات الاقتصادية الكارثية، والتي تمتد بالطبع إلى حياة المواطن العادى، والذى تأثر بصورة كبيرة مع استمرار الإغلاق، وهو الأمر الذى تجاوزه اليمينيون، وعلى رأسهم ترامب، بالدعوة إلى "التعايش مع الفيروس"، عبر إعادة فتح الاقتصاد ومواصلة الإنتاج، وهو ما أثار جدلا في الأوساط السياسية وربما العلمية، إلا أنه وجد في المقابل قبولا شعبيا، في الداخل الأمريكي، بينما امتدت آثاره إلى الخارج، في المطالبات المتواترة في دول أخرى للاقتداء بالنهج الأمريكي، والدعوات لإعادة فتح الحياة من جديد.
"نبض الشارع".. كورونا يعزز رؤية اليمين في القضايا الخلافية
إلا أن انتصارات التيارات اليمينية، من وراء أزمة كورونا، لم تقتصر على مجرد نجاحهم في التلامس مجددا مع نبض الشارع في مختلف دول الغرب، وإنما امتدت إلى تعزيز رؤيتهم فيما يتعلق بالعديد من القضايا الخلافية، التي أثارت الكثير من الجدل في السنوات الماضية، منذ بزوغ نجم تلك التيارات على الساحة الدولية، وعلى رأسها موقفهم من مسألة الهجرة، والتي تبنى فيها اليمينيون موقفا متشددا، في إطار رفضهم المطلق، للسماح للمهاجرين لدخول أراضيهم، وهو ما يرجع في الأصل لأهداف اقتصادية، تعود لمزاحمتهم للمواطن في العديد من الفرص الاقتصادية، وعلى رأسها ما يتعلق بالوظائف، وبالتالي كان انتشار الفيروس بمثابة فرصة جيدة لتعزيز رؤيتهم حول الهجرة، حيث اضطرت الحكومات إلى إغلاق حدودها أمام المهاجرين، لمنع انتشار الفيروس.
الهدوء سيطر على العالم بفضل كورونا.. ولكنه الهدوء الذى يسبق العاصفة
ولا تعد مسألة إغلاق الحدود انتصارا للتيارات اليمينية، فيما يتعلق بمسألة الهجرة فقط، وإنما تمتد في جوهرها نحو قضايا أكثر عمقا، على رأسها رؤيتها للاتحاد الأوروبى، حيث فتح انتشار كورونا الباب أمام كسر قاعدة "الحدود المفتوحة" بين دول القارة، والتي تعد أبرز القواعد التي تبنتها أوروبا الموحدة، منذ عقود طويلة من الزمن.
ولكن بعيدا عن مساهمة كورونا في كسر قواعد الوحدة الأوروبية، فالفيروس كان كاشفا إلى حد كبير لهشاشة الكيان القارى، خاصة فيما يتعلق بالتضامن بين دول أوروبا، في مواجهة الأزمات، وهو الأمر الذى ساهم بصورة كبيرة في تقويض ثقة الشعوب في جدواه، في المرحلة الراهنة، حيث تجاهلت الدول التي تضع نفسها في مصاف قيادات الاتحاد الأوروبى، الدول الموبوءة، لتترك المجال أمام دولا أخرى، وعلى رأسها روسيا والصين، واللذين سعيا بصورة كبيرة، نحو استغلال الفرصة عبر تقديم الدعم للدول التي ضربها الفيروس القاتل بضراوة، وعلى رأسها إيطاليا وإسبانيا.
التعايش مع كورونا.. اليمين المنتصر الأكبر من أزمة الفيروس
وهنا يمكننا القول بأن التيارات اليمينية تبدو المنتصر الأكبر من رحم أزمة كورونا في دول الغرب، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، خاصة وأن رؤيتهم الأكثر صرامة في التعامل مع التحديات تبدو الأكثر قدرة في التعامل مع الأزمات التي قد تواجه بلدانهم، بعيدا عن المبادئ التي يتبناها الليبراليون، والتي لم تخرج عن النطاق التقليدي، والذى فشل تماما سواء في التعامل مع الأزمة الراهنة، وأزمات أخرى، ظهرت بوادرها في السنوات الماضية، خاصة فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية التي شهدت تدهورا كبيرا، كشفت عنها السياسات الأمريكية منذ بداية ولاية ترامب، والتي عكست هشاشة النظم الليبرالية في القارة العجوز.
انتصار اليمينيين الأكبر أن أزمة الفيروس القاتل كانت بمثابة دليلا جديدا على قدرتهم الكبيرة على قراءة نبض الشارع والتواؤم معه، وهو ما تجلى في مواقفهم السابقة من الهجرة، على سبيل المثال، وإنما كانت رؤيتهم القائمة على "التعايش مع كورونا"، تعد بمثابة التحدى الأكبر الذى نجحوا في اجتيازه، خاصة إذا ما كانت خطة التعايش تقوم بصورة كبيرة استعادة الحياة لوتيرتها، في الوقت الذى يجب أن تفرض فيه إجراءات صارمة على المواطنين، لإجبارهم على اتخاذ إجراءات احترازية تساهم في تضييق نطاق انتشاره إلى أقصى حد ممكن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة