نواصل قراءة مشروع الكاتب الكبير محمد حسين هيكل، ونتوقف اليوم عند رواية له غير مشهورة عنوانها "هكذا خلقت" وهى، كما يقول، رواية واقعية تركتها بين يديه امرأة غريبة غامضة.
فبعد مضى حوالى أربعة عقود على نشر "محمد حسين هيكل" روايته الأولى والأشهر "زينب"، عاد فى أواخر أيامه ليكتب "هكذا خُلِقَت"، التى تمثِّل المرأةُ محورَهَا هى الأخرى.
ونقرأ بين سطور هذه الرواية المرأة المصرية فى منتصف القرن العشرين، من خلال قصة امرأة قاهرية ثائرة على وضعها الاجتماعى، وهو الوضع الذى أشعل بداخلها الرغبة فى ترك بيت أبيها والزواج ممن تحب، لتحول حياته بعد ذلك، رغم ما بينهما من حب، إلى جحيم، حتى يصل الأمر إلى الطلاق بعد المرور بالكثير من أفعال الغيرة والأنانية والمغالاة.
ولا ينتهى الأمر عند هذا الحد، بل إنها تتزوج بعده من أحد أصدقائه، وتظل تتمادى فى الإساءة إلى الزوجين السابق واللاحق، فهل تثوب هذه المرأة إلى رُشْدها أخيرا؟ أم تظل الضحية والجانى فى آن واحد؟
يقول محمد حسين هيكل فى مقدمة الكتاب:
كانت أسرتى فى المصيف، وكنت أتردد بين المصيف والقاهرة لبعض شئونى، وقد اعتدت فى ذلك العهد أن أنزل فندق"مينا هاوس"، أستمتع من نوافذه بمنظر الهرم والصحراء، ذلك المنظر البديع فى كل حين، وهو الروعة والسحر فى الليالى القمرية، ويزيده سحرًا ما يسرى إلى نفسك معه من نسيم عذب ينسيك قيظ النهار، ويبتعث خيالك إلى تصور القرون الخالية، حين كان أجدادنا يشيدون هذه الأهرام الضخمة، لتكون مقرًّا للفرعون الذى أمر بتشييدها، سكنًا له فى حياته الآخرة.
وكنت أستيقظ بكرة الصبح فأنزل إلى حديقة الفندق أجوس خلالها، ثم أتناول طعام فطورى تحت شجرة من أشجارها الباسقة، وكثيرًا ما كنت أقضى فى هذه الحديقة سويعات الغروب، ولم يكن نادرًا أن ألقى بعض الأصدقاء الذين يجيئون إليها من العاصمة يبتغون فى رقة نسيمها وبُعدِها عن ضجة المدينة ما يُعوِّضهم عن جهد نهارهم وقيظه.
وإننى يومًا لجالس قبل الغروب، أتوقع أن أرى بعض هؤلاء الأصدقاء، إذ رأيت فتاة شابة تقبل على متأَبطة حافظة أوراقها، ثم تقف عندى وتسلم على باسمى، ولم يدهشنى أن عرفتنى وأنا لا أعرفها، فكثيرًا ما يقع ذلك لى ولأمثالى، وكثيرًا ما يُقدِّم إلى بعض الشبان والشابات كراسات صغيرة، ويطلبون أن أوقِّع باسمى على صفحة من صفحاتها، أو أن أكتب فيها عبارة ما.
ولقد خيل إلى أن هذه الفتاة تقبل على لمثل هذا الأمر، وأنها ستخرج من حافظة أوراقها كراستها، وتطلب إلى أن أُوقِّع باسمى عليها، أو أكتب لها عبارة تعتزُّ بها بين صديقاتها، لكنها لم تفعل من ذلك شيئًا، بل رأيتها ما لبثت حين وقفت أمامى أن استأذنت فى الجلوس، فلما هممتُ بعد جلوسها أن أدعو الخادم ليقدِّم لها ما تطلب اعتذرَتْ وشكرَتْ وقالت إنها لا تريد شيئًا، ولكنها قَدِمَتْ فى مهمة كُلِّفت بها، وكلُّ الذى ترجونى فيه ألا أسألها عن شخصيتها، ولا عمن كلَّفها هذه المهمة.
وبعد هنيهة فتحت حافظة أوراقها، وأخرجت منها ملفًّا أنيقًا، وقالت: هذه يا سيدى قصة كتبتها صاحبتُها، ورغبتْ إلى فى أن أضعها بين يديك، وقد تركت لك الحرية المطلقة فى شأنها، لك أن تقرأها أو تهملها، فإذا تفضَّلتَ وأضعتَ وقتك فى قراءتها، فلك أن تلقى بها فى النار، أو تحتفظ بها بين المهملات من أوراقك، ولك إن شئت أن تنشرها على الناس، فإذا كان لها من الحظ أن راقتك فنشرتها، فستكون هى إحدى قارئاتها، ولن تعرف أنت ولن يعرف غيرك عن صاحبتها شيئًا. هذه يا سيدى رسالتي، وهذه هى القصة فى ملفها، أدعها بين يديك، وأستأذنك فى الانصراف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة