بات السباق الرئاسى نحو سدة البيت الأبيض محصوراً بين الرئيس الجمهورى الحالى دونالد ترامب، والمرشح الديمقراطى جو بايدن، الذى حاز رسمياً على ثقة ترشيح الحزب الديمقراطى لخوض سباق الرئاسة فى الانتخابات المقررة فى نوفمبر المقبل.
إذ يحتاج أى مرشح للسباق الرئاسى الأمريكى إلى 1991 من أصوات مندوبى المجمعات الانتخابية على الأقل للحصول على ترشيح حزبه، وقد تخطى بايدن ذلك الرقم بعد أن أُجريت الانتخابات التمهيدية فى سبع ولايات، وفى العاصمة واشنطن.
تعد هذه الخطوة استكمالاً رسمياً لترشيح بايدن، بعد أن أصبح المرشّح المفترض منذ أن انسحب منافسه الرئيسى بيرنى ساندرز العضو فى مجلس الشيوخ عن فيرمونت من السباق فى أبريل الماضي.
وثمة قضايا جوهرية كبرى ربما تقلب طاولة موازين التنافس الانتخابى بين ترامب وبايدن، خلال المرحلة المتبقية من عمر السباق نحو سدة البيت الأبيض، وهى قضايا ترتبط بأزمات كبيرة منها: الوباء العالمى "كوفيد 19" وما ارتبط بها من ركود اقتصادى عميق، والتطورات الدراماتيكية لحركة مناهضة العنصرية التى تشهدها أمريكا والعديد من دول العالم.
قضايا تحديد الرهانات
لعل هذه القضايا تعيد تحديد الرهانات السياسية الكبيرة قبل خمسة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية التى يصعب التنبؤ بنتائجها، وتشير تطورات الأوضاع العالمية ومجريات الأحداث إلى أن من أبرز هذه القضايا ما يلي:
القضية الجوهرية الأولى تتعلق بمعالجة إدارة ترامب الأمريكية لأزمة جائحة كورونا وما ارتبط بها من تجاذبات سياسية بين أمريكا وكل من الصين ومنظمة الصحة العالمية، سواء ما تعلق بمصدر ومنشأ الفيروس أو تنافس السباق للتوصل إلى مصل أو لقاح لمواجهة الوباء العالمي.
فبينما توفى قرابة 110 آلاف أمريكى جراء كورونا المستجد، وهى أعلى حصيلة وفيات للوباء فى العالم، خسر عشرات الملايين من الأمريكان وظائفهم بعد قرار وقف العجلة الاقتصادية للحد من تفشى المرض.
وقد انتهز الديمقراطيون قصور إدارة ترامب لأزمة كورونا، لتحقيق مكاسب سياسية من خلال توجيه الانتقادات للطريقة التى تم بها إدارة الأزمة وأسفرت عن خسائر جسيمة فى الأرواح والهياكل الاقتصادية وفقدان الملايين وظائفهم ومصدر معيشتهم.
ولذا شهدت شعبية ترامب فى الفترة الأخيرة تراجعاً فى استطلاعات الرأى الأمريكية، خصوصاً فى صفوف الناخبين الأساسيين لإعادة انتخابه: المسنون والمسيحيون الإنجيليون، وقد يؤدى تأخره فى اتخاذ إجراءات فى بداية تفشى الوباء، إضافة إلى تهديداته بنشر الجيش مقابل المتظاهرين، إلى فقدانه جزء كبير من أصوات النساء ذوات البشرة البيضاء باعتبارهن "منزعجات من إدارته للوباء" حسب وصف مراقبين.
التشاؤم والتدهور الاقتصادى
لعل القضية الجوهرية الثانية مرتبطة بالتدهور الاقتصادى الذى ترتب على تداعيات كورونا مثلها فى ذلك مثل بقية دول العالم التى ضربها الفيروس، حيث توقع تقرير صادر عن مكتب الميزانية التابع للكونجرس الأمريكى وصول خسائر إجمالى الناتج المحلى للولايات المتحدة نتيجة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) خلال الفترة من 2020 إلى 2030 إلى 15.7 تريليون دولار.
وأشار التقرير إلى أن هذه التقديرات تقل بنسبة 5.3% عن التقدير التراكمى لإجمالى الناتج المحلى خلال السنوات العشر المقبلة والمعلنة فى يناير الماضى وقبل تفشى جائحة فيروس كورونا المستجد، ويتوقع مكتب الميزانية الأمريكى استمرار التداعيات الاقتصادية للجائحة على إنتاجية الاقتصاد الأمريكى وإن كان بدرجة بسيطة حتى 2030.
وتخشى الولايات المتحدة الأمريكية من تفاقم خسائر اقتصادها بشكل كبير خلال الفترة المقبلة، بالتزامن مع إشارات بعض الدراسات إلى أن أمريكا تحتاج إلى الإبقاء على سياسة التباعد الاجتماعى حتى عام 2022، مما سيزيد بشكل كبير من الخسائر الاقتصادية فى واشنطن.
وقد خلقت هذه الأجواء حالة من واسعة من التشاؤم سيطرت على الجمهوريين ذاتهم، بشأن المسار الذى تسلكه أمريكا أكثر من أى وقت مضى منذ أن تولى الرئيس ترامب الرئاسة، حيث أوضح استطلاع للرأى أجرته مؤسسات إعلامية أمريكية الأسبوع الماضى أن 46 فى المائة فقط من الأمريكيين الذى يعدون أنفسهم جمهوريين يقولون إن البلاد تسير فى الطريق السليمة. وهذه هى أول مرة ينخفض فيها هذا الرقم لهذه الدرجة منذ أغسطس 2017، وحتى أوائل مارس الماضي، كان نحو 70 فى المائة من الجمهوريين يقولون إنهم متفائلون بشأن مسار بلدهم، ولا تزال شعبية ترامب عند مستوى 40 فى المائة؛ إذ لا تزال أغلبية كبيرة من الجمهوريين تستحسن أداءه بصفة عامة.
غير أن خبراء ومراقبين يقولون إن طول فترة التشاؤم بين أنصار ترامب ربما ينذر بضعف محتمل قبل انتخابات نوفمبر المقبل، التى يواجه فيها نائب الرئيس السابق الديمقراطى جو بايدن، وقال 37 فى المائة من الجمهوريين إن أمريكا تسير فى طريق خطأ، وقال 17 فى المائة منهم إنهم سيصوتون لصالح بايدن إذا أجريت الانتخابات الآن، فى حين لا يزال 63 فى المائة يعتزمون التصويت لصالح ترامب.
تقسيم المجتمع الأمريكي
تتمحور القضية الجوهرية الثالثة حول العرقية والتقسيم المجتمعى فى أمريكا بين البيض والسود، والمظاهرات المنددة بالعنصرية فى مناطق عدة من العالم، فى أعقاب موجة الاحتجاجات التى اندلعت فى الولايات المتحدة إثر وفاة جورج فلويد، وهو أمريكى من أصل أفريقى يبلغ 46 عاماً قضى نحبه اختناقاً بعدما جثا على رقبته ضابط شرطة أبيض فى مينيابوليس فى الخامس والعشرين من مايو الماضي.
ويرى مراقبون أنه كان بإمكان الرئيس ترامب أن يلعب "دور المهدئ" فى هذه المظاهرات التى اندلعت مصحوبة بأعمال سلب ونهب لبعض المتاجر الأمريكية، إلا أن ترامب لم يفعل ذلك، واتهم بتأجيج المشاعر عبر خطاب عسكرى ودعوات إلى تطبيق "القانون والنظام" ضد ما أسماهم "لصوص ومثيرى شغب".
وكان خروجه من البيت الأبيض - مطلع الأسبوع الماضى - لالتقاط صورة حاملاً الكتاب المقدس بيده أمام كنيسة تضررت بسبب التظاهرات، يهدف إلى توجيه رسالة لناخبيه التقليديين، المحافظين والإنجيليين.
من جانبه انتهز منافسه المحتوم الديمقراطى جو بايدن الفرصة، ووجه الانتقاد إلى الرئيس ترامب فى رده على الاحتجاجات، إذ سرعان ما تحول كثير منها إلى أعمال شغب صاحبتها سرقات ونهب للمتاجر فى الولايات المتحدة، وامتدت هذه الشرارة إلى دول أخرى من باريس فى فرنسا وحتى لندن ومانشستر فى بريطانيا وغيرها من المدن.
وتشير دراسات إلى هذه القضية ربما تكون عاملاً محوريا فى عدم تمكن ترامب من التأهل للفترة الثانية لرئاسة البيت الأبيض، باعتبار أن الفوارق الاقتصادية بين البيض والسود فى أمريكا باتت واضحة ومتجذرة وتحتاج إلى جراحة اقتصادية متخصصة.
وقد كشفت إحصائيات أمريكية عام 2016، أن متوسط ثروة الأمريكيين ذوى الأصول الأفريقية تبلغ 17 ألف دولار، بينما يرتفع هذا المبلغ إلى عشرة أضعاف عند أصحاب البشرة البيضاء ليصل الرقم إلى 170 ألف دولار، وبلغ متوسط دخل الأمريكيين الأفارقة 41 ألف دولار فى 2019 بزيادة قدرها 3.4 فى المائة على عام 2008، بينما زاد هذا الرقم عند الأمريكيين البيض على 70 ألف دولار، بزيادة قدرها 8.8 فى المائة على عام 2008.
ولا ترتبط قضية الفوارق الاقتصادية بين البيض والسود فى أمريكا بطبيعة الحزب الذى يسيطر على سدة الحكم، وبالتالى تظل هذه القضية المحك الرئيسى لكل من ترامب وبايدن فى آن واحد، ولعل الأرقام تؤكد حقيقة عدم وجود رابط فعلى بين الحزب الحاكم والفجوة الاقتصادية العرقية، فمنذ 1992 حتى 2016 حكم الولايات المتحدة رئيسان جمهوريان وآخران ديمقراطيان، وخلال هذه الفترة زاد الفارق فى الدخل بين العرقين الأبيض والأسود من 100 ألف إلى 154 ألفاً، وصاحب هذه الفترة تحسن اقتصادى للولايات المتحدة بشكل عام، حيث زاد دخل الأسرة المتوسطة من 83 ألفاً إلى 97 ألف دولار، ومع ذلك فإن الفجوة فى الدخل والثروة بين العرقين اتسعت بشكل كبير.
يبقى القول أن الفترة القليلة المقبلة ستشهد المزيد من التجاذبات السياسية الحادة بين ترامب وبايدن، من أجل تقديم حلول ومقترحات واقعية للتغلب على وتفادى التأثيرات السلبية لهذه القضايا الجوهرية فى المستقبل القليل المنظور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة