كان الوقت صباحا يوم 13 يوليو، مثل هذا اليوم، 1882، حين جمع الخديو توفيق من بقى لديه من الأمراء والذوات واستشارهم فى أمر حالهم بعد احتلال الإنجليز لمدينة الإسكندرية فى أعقاب اعتداء الأسطول الإنجليزى على المدينة يوم 11 يوليو 1882، حسبما يذكر «سليم النقاش» فى الجزء الخامس من كتابه «مصر للمصريين».
ربط توفيق ورجاله مصيرهم بالإنجليز فى مواجهة الثورة العرابية بزعامة أحمد عرابى، وكان ضرب الإسكندرية واحتلالها أول تنفيذ عملى لمخطط احتلال مصر، وكان هم توفيق هو حماية عرشه حتى لو كان الاحتلال ثمنا.. يذكر «النقاش» أنه حين استشار توفيق رجاله: «رأى درويش باشا (مندوب السلطان العثماني) أن يذهبوا جميعا إلى بنها ومنها إلى السويس فرارا من الخطر، وارتأى غيره من الحضور أن يقصدوا العاصمة ويتحرزوا فيها، أما الخديو فقال إن أهم الأمور أن نجعل الأميرال سيمور(قائد الأسطول الإنجليزى) على علم بأمرنا إذا أمكن لنا ذلك، فعهد إلى زهراب بك أن ينزل إلى البحر، ويخبر الأميرال بما كان، ويعلمه أن الخديو ينزل إلى سراى رأس التين إذا كان القصر سالما لم ينهدم حتى ذلك الحين».
وفيما كان توفيق يبحث مصيره ومعه الأمراء والذوات، كانت كتيبة من جنود الأسطول تقوم باحتلال سراى رأس التين وشبه جزيرة رأس التين، وفقا لعبد الرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي».. وكان توفيق خارج السراى بعد أن تركها فجر يوم 10 يوليو قاصدا سراى الرمل، حسبما يذكر «النقاش».
يصف «النقاش» موكب توفيق من «سراى الرمل» إلى رأس التين قائلا: «مر الخديو وبطانته بالشارع أمام مستشفى الراهبات، وساروا من جهة باب محرم بك ليدخلوا المدينة، والخديو فى عربة مكشوفة وإلى جانبه درويش باشا ووراء عربته عربة فى مقدمتها ثلاثة من الخصيان، وعربة تقل عليها بعض أمتعة، وموكب الخديو مؤلف من 60 أو70 فارسا يتقدمهم طائفة من الحرس بسيوف تعلو رؤوسها أعلام بيضاء، واضطر الخديو فى رجوعه أن يمر بجماعات النهابين وبين المنازل الملتهبة».
كان أحمد شفيق باشا أحد رجال الخديو، وكان معه طوال هذه الأيام، ويكشف تفاصيل تصرفات «توفيق» فى هذا اليوم «13 يوليو».. يذكر فى الجزء الأول من مذكراته: «فى يوم 13 يوليو علمنا أن كثيرا من العساكر التى كانت فى الإسكندرية تركوا فرقهم وانصرفوا إلى بلادهم، وخشى الخديو أن ينفذ العرابيون ما أضمروه له، فقرر العودة إلى سراى رأس التين، وكان درويش باشا (مندوب السلطان العثمانى) قد أرسل إشارة إلى اليخت العثمانى «عز الدين» الذى حضر عليه من الآستانة، بالدنو من سراى مصطفى باشا، حتى إذا هاجم الثائرون السراى أمكن نزوله فيه مع سمو الخديو، ولكن رؤى أن ذلك ربما يلفت أنظار الثائرين، فيغرقون اليخت ويقطعون خط الرجعة فعدل عن هذه الفكرة، وأوفد الخديو زاهرب بك إلى الأميرال سيمور ليخبره بذلك».
يضيف شفيق باشا: «فى الساعات الأولى من بعد ظهر يوم 13 يوليو عاد فأخبره بأن الأميرال أمر بإقامة الحرس الكافى فى سراى رأس التين وجهة ديوان البحرية وجهة القبارى، ثم استعدت المركبات والدواب لنقل الخديو وأنجاله ورجال الحاشية من سراى مصطفى باشا إلى سراى رأس التين، فمنهم من استقل العربات ومنهم من امتطى الدواب، ومنهم من سار على قدميه».
يضيف شفيق: «كان الخديو أصدر أمره، بمجرد وصوله إلى سراى رأس مصطفى باشا، إلى أخى محمود أفندى مأمور مركز أبوحمص ليرسل بعض البدو للحراسة، فلبى الطلب، فوصلوا صباح 11 يوليو، فمدت لهم موائد الطعام حيث أكلوا وشربوا، وشاهدناهم عند عودتنا إلى سراى رأس التين منتشرين فى شارع باب رشيد منصرفين إلى سلب المهاجرين من الإسكندرية، والنساء يصحن ويولولن وهم فى أثرهن، وقد أحاطوا بهن وسدوا عليهن منافذ النجاة، وأخذوا ينزعون الحلى من صدروهن وآذانهن قسرا، حتى جرجروها وأسالوا منها الدماء، ومازلنا نسير بين هذه المناظر المؤلمة حتى دخلنا المدينة، فى وسط لهب الحرائق التى كانت مشتعلة فى الأحياء المهمة، وكانت فظيعة ولاسيما فى شارع شريف باشا، وميدان محمد على (المنشية) الذى بدا لنا كأنه أتون من نار، وما كنا نتصور أننا سنجتاز هذا الميدان دون أن نصبح طعاما للنيران، وكان الجو مزيجا من دخان ولهيب ودرجة الحرارة تلفح وجوهنا وتكاد تشوى جلودنا وكأننا فى جهنم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة