نقرأ اليوم جزءا من كتاب "أكتب لكم من طهران" لـ دلفين مينوى، والصادر عن دار ممدوح علوان، ترجمة ريتا باريش، وينطلق الكتاب من فكرة أنه منذ الثورة التى أطاحت بالشاه في عام 1979 تعيش إيران حالة من الغليان الدائم والتقلبات الاجتماعية والسياسية الكبيرة، من هناك تكتب دلفن منوى الصحفية الفرنسية من أصول إيرانية تجربتها فى الحياة فى إيران لمدة عشر سنوات ومن ضمنها أحد أكثر الفترات غموضاً فى تاريخ إيران، الحركة الخضراء.
يقول الكتاب تحت عنوان رسالة إلى بَابَايْ، جدِّي. باريس، صيف 2014
لقد تركتُ أرضك بلا عودة، كيف من الممكن أن يترك المرء نصفه الآخر بعد أن وجده؟ كانت العاصمة الإيرانية، بداية صيف 2009، تبكى شهداءها، وتفيض السجون بالمعتقلين. تخضَّبت خضرة الأمل، خلال الفترة التى دامت خلالها تلك الانتخابات الصورية، بحمرة الدماء. وتحطَّمت آمال التغيير على جدار القمع.
ذيَّلت على مضض بتوقيعى تقريرًا صحفيًا طويلًا وحدك تعرف سِرَّه. وعند عودتى إلى باريس، لم أعد أقوى على الكتابة، وجافت الكلمات صفحتي. بين المحسوس والمُعاش، تحوَّلتُ من صحفيةٍ إلى مواطنة، فاقدة بذلك المسافة التى تسمح لى بأن أسرد. ولهذا وضعت قلمى جانبًا لفترة لم تكن بقصيرة، قبل أن أتذكَّر أبياتًا لحافظ الشيرازى أهديتها إلى يومًا:
أمَن تَرمِى بِهِ الأموَاجُ فى لَيلٍ بلا قَمَرٍ
كمَن يُمسِى على الشُّطآنِ قَد ألهَاهُ ما أَلْهَى
حدث ذلك فى باريس، صبيحة أحد أيَّام تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1997. لم أكن أعلم حينها أننى سأجعل من تلك القصيدة، فيما بعد، مذهبى وإيماني.
يومها، كنت قد وصَلتَ من إيران من أجل عملية جراحية فى القلب. جراحة بسيطة، هكذا قال الأطبَّاء. كان لى من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، أمَّا أنت، فكنت قد بلغت منه ثلاثة أضعاف ما كان لي، كنت أظنُّك خالدًا، ذلك ولا شك، بسبب المسافة التى باعدتنا على الدوام.
خلال زياراتك النادرة لفرنسا، كنتَ معتادًا على أن تعبِّر بالقصائد عمَّا يجول فى خاطرك، وتسهو عن ترجمتها. أنت من كنت ممثِّلًا لإيران فى منظَّمة اليونسكو فى نهاية الخمسينيات، كنت تحفظ قصائد الشيرازى عن ظهر قلب، مواظبًا على القول إن لدى هذا الشاعر المستنير، ابن القرن الرابع عشر، جوابًا لكلِّ شيء، وإن كتاباته أثمن من كل كرات العرَّافين البلَّورية، إذ يكفى استحضار واحدة منها لا على التعيين للتنبُّؤ بالمستقبل القريب. شيء ما أشبه بالسحر كان يكمن فى الإنصات إليك، وأنت تتلو ما كانت أذناى تلتقطه كرطانةٍ أعجمية. فى ذلك اليوم، وعلى فراش المستشفى، كلَّفت نفسك عناء الشرح، لتعبِّر عن رغبتك غير المسبوقة فى تلقينى لغتك الأم. نزوة مفاجئة كحاجة ملحَّة. لم يكن أحد يهتمُّ فى بيتنا بأن يحدثنى عن جذوري. من اليمين إلى اليسار، تراقص مدادك وهو يكسو السواكن بعلامات التشكيل الصغيرة الملوَّنة. مذيلًا كلَّ سطر من المخطوط بترجمة فرنسية. كانت تلك القصيدة أوَّل دروسى فى اللغة الفارسية، وآخر زفرات أنفاسك.
باغتنى رحيلك المفاجئ. فقد عرفت القليل عنك، وأقلَّ من ذلك عرفت عن بلدك. طفلةً، أرسلت إليك الرسائل، كما لو كنت أستطلع المجهول، مزيَّنةً دائما برسومات ملوَّنة، أبطالها أشخاص لا يتغيَّرون: أبي، أمي، أختى نَسرين وأنا. كنا عيِّنة صغيرة من عائلتك المنتشرة فى بقاع الأرض، صغيرة كأعمدة الأخبار الموجزة فى الصحف الفرنسية، كأوَّل تقاريرى الصحافية. يقولون إن الكتابة تُحرِّر، فى تلك الآونة، كنت أراها أشبه بلعبة غمَّيضة مع ظلِّك. أو بالأحرى، أحجية مشوِّقة، أبحث فيها بعناد عن قطعها المفقودة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة