وقال فرح - في حديث لوكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم الاثنين، إن الثقافة بمفهومها الشامل هي أساس القيم أو هي نقطة "أوميجا" التي تجسد الضمير الوجداني والجمالي للإنسان ، وما أقصده أن الثقافة المرتكزة على القيم التي تعكس وجدان الشعوب وابداعاتها وجمالاتها يمكن لها أن تحارب كافة أشكال وأنواع التطرف.


وأشار إلى الآليات التي يمكن لها أن تروج للثقافة من خلال الكتاب والتليفزيون والإذاعة والسينما والمسرح والفن التشكيلي ، والتربية التعليمية في المدرسة والجامعة ، وفي كل منظومات العمل في التربية الدؤوبة اليومية في الأسرة والشارع والحزب والنادي وغيرها من كل أنواع وصنوف القول والفعل في الحياة.
وأكد ضرورة أن تكون الثقافة العربية بـ"تثاقفها" الخلاق مع اشراقات الثقافات العالمية وبمفهومها العلمي والفلسفي والقانوني والديني ، حاضرة دائما كالأوكسجين وحاجة يومية كالطعام على مستوى القول والفعل ، عندها وفي حال "تذوقها و تبيئها" محليا بشكل واسع يمكن أن يتجه العالم العربي نحو نقلة حضارية من نوع جديد.


ويعد المفكر "سهيل فرح" أحد أبرز الوجوه الأكاديمية والفلسفية على الساحتين العربية والروسية على مدى العقود الماضية وحاصل على وسام روسيا للصداقة الذي قلده إياه الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف عام 2011، وهو العام الذي تم فيه اختياره شخصية العام في ميدان العلوم في روسيا.
وحصل فرح على الماجستير من جامعة موسكو في الصحافة التلفزيونية ثم ناقش رسالة دكتوراه في فلسفة التاريخ في الجامعة نفسها عام 1984 وحصل على درجة دكتوراه علوم من جامعة نيجني –نوفغورود عام 2001 . وهو عضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي الحضاري يالطا ٢ . ومنح في عام 2000 ميدالية بوشكين الدولية وفي 2004 منح وسام الصداقة بين الشعوب.


كما شغل عددا من المناصب العليا في روسيا كرئيس للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات ونائبا لرئيس المعهد العالمي لبيتريم سوروكين ونيكولاي كونرانوف، وعضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي للثقافة الروحانية "كازاخستان".


وأوضح المفكر سهيل فرح أنه كلما كانت الثقافة حاضرة كلما كان أداء الاقتصاد أنجع، مشيرا إلى أهمية أن تكون الثقافة حاضرة في العائلة وعلى مستوى علاقة الزوج بزوجته والأهل بأبنائهم والأجداد بأحفادهم فكلما كانت الأسرة مثقفة كان المجتمع مثقفا وأصبحت الأمة مثقفة.


وعن نشأة الفكر المتطرف وكيفية مواجهته، استشهد المفكر اللبناني- الروسي بما ذكره هولباخ ،أحد الفلاسفة الألمان، عندما قال" إن الجهل هو أبو الخطايا"، بمعنى أن الانسان كلما كان جاهلا كلما كان متعصبا ، وقد يكون الإنسان عالما في دينه أو مذهبه أو حتى مهنته وليس عالما في الأديان أو المذاهب أو العلوم أو الأفكار الأخرى ، فالإنسان جاهل على الأقل في الفضاءات الثقافية الأخرى أيا كان نوعها.


وأردف:" الفكر المتطرف ينشأ تحديدا لدى الناس والأشخاص الذين يؤمنون بالحقائق المطلقة وأنا أسميها الحقائق المغلقة تأتي من الناس الذين يتشرنقون ويتخندقون في هوياتهم الضيقة وهم عبيد نصوصهم وتربيتهم وتقاليدهم".


وتابع قائلا :"هناك جانبان، مضيء - منفتح وأخر مظلم - منغلق ، وهناك الجانب الحر الخلاق والجانب الذي ضد كل أنواع الرأي الآخر، الجانب الذي يدعو إلى التماهي والتموضع مع الاخر والجانب الذي يدعو إلى التقوقع ضمن اطار (الغيتو) أو الهوية الضيقة ، وهو عنصر من العناصر الأساسية لنشأة التعصب".
وأوضح أن الانسان عندما يتعصب لا يقبل بفكر الآخر وتصل المسألة عند هؤلاء ليس فقط إلى عدم قبول الفكر والرأي الآخر بل إلى النزاع معه ومع تراكم النزاعات تتولد الحروب وتتكون العوامل السلبية في الذاكرة التاريخية.


واعتبر المفكر الروسي- اللبناني د. سهيل فرح أن كل طرف من الأطراف اذا نظر بشكل موضوعي لنفسه يرى أن هناك جوانب هدامة وعوامل سلبية في ذاكرته التاريخية، وهناك أفكار "منمطة" عن نفسه وعن الآخرين.


يشار إلى أنه في موضوعات فلسفة العلوم والثقافات والحضارات والأديان ، أصدر المفكر فرح 23 كتابا ترجم منها إلى العربية والروسية والانجليزية ، ومن أهم كتبه "الحضارة الروسية.. المعنى والمصير" الذي يحاكي الحضارة الروسية بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومن جغرافيا واسعة، وكتاب "حوار وشراكة الحضارات" الذي تم على اساسه واساس غيره ترشيحه لجائزة نوبل للسلام ، فيما ارتبط نشاطه منذ دراسته في جامعة موسكو في مطلع السبعينيات بموضوع حوار الحضارات وقضايا العولمة والمسألة الثقافية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.


وقال المفكر سهيل فرح إن مواجهة التطرف تتم اذا تسلح الإنسان برؤية شاملة ليست فقط محصورة على الرؤية الدينية ، بل يجب أن تكون مطعمة بالرؤية العلمية والفلسفية وهناك ثلاثة تصورات في الوجود ما بين تصور ديني واخر فلسفي وثالث علمي،اذا تناغمت هذه التصورات الثلاثة في المنطقة الايجابية ممكن أن تكسر الحواجز بين العقل الديني والفلسفي والعلمي وتكسر الحواجز بين حملة هذا الدين وذاك أو حامل هذه الثقافة أو تلك أو المنتمي لهذه الحضارة أو تلك .. اذا بالوعي والمعرفة والمزيد من الثقافة يمكن أن نواجه التطرف على كل المستويات.


وحول دوافع ترشحه للمرة الثالثة لنيل جائزة نوبل "فرع السلام"، ذكر المفكر الروسي- اللبناني:" هي فعلا المرة الثالثة، الأولى كانت في عام 2018 والثانية في 2019 والثالثة في العام الحالي.. إلا إن الترشيح لم يكن فرديا بل كان في المرة الأولى والثانية مع عالم موسوعي كبير من الوزن الرفيع وهو الأكاديمي يوري يكوفتس، وفي هذا العام أضيف لأسمينا اسم زميل لنا وهو عالم كبير أيضا يدعى ألكسندر أغييف".


وأضاف:" نحن الثلاثة نعمل معا في ورشة علمية واحدة منذ عام 2001 تقريبا.. أسسنا معا معهد بيتريم سوروكين، وهذا العالم الاميركي - الروسي ، الذي تم نفيه من روسيا منذ اندلاع الثورة البولشفية أسس قسم علم الاجتماع في جامعة هارفارد الأمريكية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأصدر مجموعة الديناميكا الثقافية الاجتماعية للحضارات الواسعة الانتشار عالميا في ميادين العلوم الإنسانية".


وأردف بالقول: "مع زميليي يكوفتس وأغييف أصدرنا مجلة "شراكة الحضارات" التي تصدر في أكثر من لغة، ومعا أيضا أسسنا الجامعة المفتوحة لحوار الحضارات التي شرفت برئاستها بدءا من عام 2013 وحتى تاريخه وأصدرنا ما يناهز السبعين كتابا منها 23 كتابا من تأليفي وإعدادي، وكلها تبحث في أبرز القضايا المتعلقة بمسائل النمو الحضاري وأفوله وأزماته والتفتيش عن الخيارات الحضارية البديلة وذلك بالاستناد الى رؤية منهجية عمادها الأساسي: المقاربة التكاملية العلمية و الرؤية الاستشرافية الفلسفية النووسفيرية".


وتابع قائلا: "بيد أن نقطة الأوميجا فيها هي دائما التمحور حول ثقافة الحوار والشراكة بين الثقافات والأديان والمعارف، وهي التركيز على ضرورة تعميم وتعميق ثقافة السلام وتربية الأجيال على هذه القيم منذ ظهورهم على هذه الدنيا وحتى آخر لحظة من حياتهم".
وحول رؤيته لتأثير فيروس كورونا على العالم ثقافيا .. قال المفكر سهيل فرح :"لقد أيقظت كورونا روح الرؤية التي يتوجب أن تكون متواضعة جدا لدى الأنسان عن نفسه وعن الطبيعة والله والكون . فموضوع الأوبئة والفيروسات التي لا حصر لها هي متواجدة على كوكبنا منذ نشأته، هي ليست ابن حقبة كورونا فقط".


وأضاف أن الإشكال الكبير في المجتمعات المتقدمة هو إن الإنسان العالم ومعه الساسة وبيوتات المال لم يعطوا الأهمية المطلوبة او لم يتفرغوا فعلا لمكافحة الأمراض والفيروسات والأوبئة الكلاسيكية والمستجدة ، فرغم التقدم الملحوظ في الطب وعلوم البيولوجيا ، إلا أن هذين الحقلين بحاجة ماسة أكثف للمزيد من التركيز والإهتمام فيهما . ولعل الخطيئة الكبرى التي قامت هي التي ركزت على العلوم التي تخدم الأنانيات الجماعية والفردية وصب الإهتمام على استخدام العلوم للحروب العبثية.


وقال فرح :ان تقدما تكنولوجيا وماديا هائلا رائعا ومشكورا حدث على الأرض في القرون الثلاث الاخيرة ، بيد انه في حساب الربح والخسارة بين طاقتي البناء والهدم ما هي الحصيلة حتى الآن؟ " الحصيلة المرئية أمام أعيننا هو حدوث ذاك اللا توازن لا بل الاضطراب المخيف بينه وبينها، فأحدث كوارث كثيرة... وليس العنوان الإيكولوجي فيها هو الوحيد. تبين انه من خلال التدخل الارعن في سيمفونية التناغم في مكونات (كل مكونات) الطبيعة ، ومن خلال عدم توصل العقل الحداثوي من ادراك الا للجزء اليسير جدا من أسرار الطبيعة، حيث يبدو العقل العلمي تحديدا وكأنه ما يزال في صف الحضانة"... 


وأضاف أن الإشكال الكبير هو إن الإنسان ذهب بعيدا في التباعد عن التمسك بأخلاق العلم ، وعن التفرغ الفعلي لمكافحة كل انواع الامراض والفيروسات والأوبئة ، والأهم الطلاق أو عدم التناغم بينه وبين أمه الطبيعة ومجمل مكوناتها.