كانت الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر 23 يوليو، مثل هذا اليوم، 1956، حين تلقى الدكتور مصطفى الحفناوى مكالمة لم يتوقعها للقاء جمال عبدالناصر، حسب تأكيده فى الجزء الثالث من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، موضحا، أنه كان فى عزبة تقع على النيل فى شمال قناطر أدفينا يملكها أولاده القصر، ويشرف على الزراعة فيها منقطعا عن الاتصال بالناس».
جاء الاتصال فى وقت يواصل العالم ترقبه لرد فعل مصر على قرار أمريكا برفض تمويل بناء مشروع السد العالى يوم 19 يوليو 1956، وعلى أثره تسارعت الخطى فى سرية تامة نحو تأميم قناة السويس.. «راجع، ذات يوم، 19 و20 و21 و22 يوليو 2020».
كان «الحفناوى» أبرز المهتمين بالقضية، وممن يدعون لتأميم القناة منذ حصوله على الدكتوراة حولها من جامعة باريس فى يونيو 1951، وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 بدأت علاقته مع ضباطها أواخر أغسطس بدايات سبتمبر 1952، حسبما يكشف فى مذكراته «مصطفى الحفناوى وخلفيات تأميم قناة السويس»، مشيرا إلى أنه ذهب بعد اتصال به إلى مقر القيادة العامة بمنشية البكرى، فقابله الضابط إبراهيم الطحاوى، وقدمه لضابط شاب فارع القامة برتبة بكباشى وقال له وهو يقدمه: «هذا هو الأخ جمال عبدالناصر الذى يتقدمنا فى صفوف ضباط الثورة».. يصفه الحفناوى: «كان فى عينه بريق ينم عن حدة ذكاء وقوة إرادة وقوة شخصية، وكان الناس يقولون همسا إنه القائد الحقيقى للثورة، لكنه متنكر خلف منضدة مكتبه المتواضع، وخلف ستار اسمه اللواء محمد نجيب».
يؤكد أنه تواعد مع الطحاوى على لقاءات يومية، وتوثقت صلتهما..يتذكر: «طلب منى عبدالناصر أن أفسر له موضوع القناة الذى أنا مشغولا به ليلا ونهارا، شرحت له فى إيجاز، كان شديد الإصغاء، وقال عبارة واحدة دلتنى على صفاء ذهنه ودقته فى وضع خططه، قال لى عبارة أذكرها وتدوى فى أذنى حتى الآن: «اسمع يا دكتور: علينا أن نركز جهودنا فى إجلاء الاحتلال البريطانى عن قاعدته فى قناة السويس، وأعدك بتأميم الشركة بعد الجلاء، لكن إذا تعرضنا لموضوع الشركة قبل الجلاء ستتعقد المسائل ولن نستطيع أن نفعل شيئا».
يتذكر أنه ألقى محاضرة بعنوان «قناة السويس» فى افتتاح الموسم الثقافى بنادى القوات المسلحة بالزمالك يوم 17 نوفمبر 1952، كان لها دويا فى الداخل والخارج، وأعلن فيها: «إذا كان لابد من تأميمها، فعلينا أن نؤممها».. يضيف، أنه بعد أيام قلائل وصله خطابا من مجلس الوزراء بإنشاء مكتب لجميع الوثائق وعمل الدراسات اللازمة، للاستعداد لاستلام القناة فور انتهاء عقد الامتياز، وأن الحكومة عهدت إليه بهذا المكتب، لكنه فوجئ بالعدول عن القرار، ولم يفهم السبب إلا بعد تأميم القناة، حيث وجد فى ملفاتها السرية ترجمة لمحاضرته فى نادى الضباط، وتصريحا للواء نجيب، وإنذارا رسميا لسفيرى أمريكا وبريطانيا إلى حكومة الثورة حول، هل حقيقة لديها النية فى تنفيذ ماأنادى به بتأميم القناة، يكشف الحفناوى: «أصبح الاتصال بشخصى فى الموضوع من أسباب المتاعب التى اقتضت الحكمة إرجاءها إلى الوقت المناسب».
أصبح الاتصال سريا، حيث يكشف فى الجزء الثالث من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»: «فى 21 يوليو 1955، تشرفنا بالتحدث مع الرئيس عبدالناصر فى بيت صديق ساعات، وفهمنا أنه أعد للأمر ولم يفصح عن الخطة ولا الوقت الذى اختاره للتنفيذ..وعلمنا من سيادته أن شارل رو، رئيس الشركة، دائم الشكوى منا، ويستعدى السلطات علينا».
على هذا الأساس كان الاستدعاء يوم 23 يوليو 1956.. يتذكره: «فوجئت بمكالمة تليفونية فى عزبة مقابلة، وكان المتكلم صديقى اللواء صديق عبداللطيف حكمدار الإسكندرية الذى طلب منى أن أعود فورا، قائلا، إن طائرة فى انتظارى لتحملنى إلى القاهرة لأتشرف بمقابلة الرئيس عبدالناصر، وأن الأمر صادر من سيادته، وبعد البحث الطويل عنى والاهتداء إلى مكانى، لم يعد فى الوقت متسع للسفر بالطرق العادية فالطائرة فى الانتظار».
لا يخفى الحفناوى قلقه من المفاجأة، ويتذكر: «عدت إلى الإسكندرية ومررت ببيتى لحظة خاطفة، ثم حملتنى الطائرة، وفى أقل من ساعة وصلت إلى القاهرة، وألفيت نفسى بدار سيادة الرئيس جالسا بين يديه وبجواره سيادة الأستاذ على صبرى، وأفضى لى بخبر قراره التاريخى بتأميم شركة قناة السويس..كان القرار من أسرار الدولة الخطيرة، وسجدت لله شكرا على هذه الثقة الغالية التى غمرنى بها، وعلى تلك الخطوة غير المسبوقة فى تاريخ مصر القديم والحديث».