رحل عنا عالمنا الدكتور محمد مشالى - طبيب الغلابة - بعد أن علمنا جميعا أن الرحمة الحقيقية بالفقراء والبسطاء، لا تتمثل فى مجرد تألم القلوب ودمع العيون، وإنما تلك الرحمة التى تدفع صاحبها إلى خطوات فعّالة لمساعدتهم، هذا الطبيب الذى قضى نصف قرن فى خدمة الغلابة لم يحرك سعر الفيزاتا أكثر من 10 جنيهات، فى زمن وصلت فيه هذه المهنة إلى بيزنس وتجارة فى لحوم البشر، لكن لسان حاله يقول "ماذا أفعل بالأموال والعمارات والسيارات، خدمة الإنسانية أغنى وأبقى وأعظم".
ليعيش عمره كله فى بساطة من الملبس والمأكل والمسكن، بعيدا عن الأموال والأضواء، إلا أن الله عز وجل أراد أن يكرمه فأحسن تكريمه، فقبل شهور معدودة من رحيله، فإذا بكاميرات الشاشات ومقدمو البرامج والصحافة الإعلام يتنافسون على محاورته أو التقاط صورة له، ليصبح حديث البلاد والعباد دون رغبة منه أو جهد، بل يصبح رمزا للعطاء، وأيقونة لصناعة الأمل، ومثالا أن الدنيا بخير.
وليذكرنا هذا التكريم الربانى لهذا الطبيب المتواضع، أن المحسنين يشعرون بطمأنينة لا يشعر بها غيرهم، ويكفي ما يقابلون به من الذين يحسنون إليهم من الود والمحبة والتقدير مما يدخل السعادة إلى نفوسهم، وهذا ما أكده لنا الله تعالى فى كتابه العزيز حين قال، "وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، ولهذا فإنّ كلّ عمل نعمله في طريق الخير فهو لنا، حتى لو كان في مظهره من أجل الآخرين".
فمشهد حزن الناس أجمعين على رحيله والترحم عليه، والتسابق على تكريمه بعد وفاته، من المؤكد أنه جاء لحكمة يعلمها الله، لكنها فى نفس الوقت ترسم لنا دلالات رضى الله ومحبته، مطباقا لللحديث القدسى "إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل, يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض فيحبه كل أهل الأرض".
وأخيرا.. علمتنا حياة طبيب الغلابة العطرة، إنّ خدمة النّاس تنمّي روحيّة التواضع وتقمع الكبر، وتنمّي في الإنسان صفات كالسخاء والإيثار، بل تبني النفوس القويّة والمجتمعات المتضامنة التي تملك الحصانة لمواجهة الآفات.. فلكم فى طبيب الغلابة حياة يا أولى الألباب...