نواصل قراءة المشروع الفكرى للمفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) الذى يعد أبرز كتاب القرن العشرين، انطلق من البيئة المصرية العربية الإسلامية وناقش العديد من الأفكار المهمة، واليوم نتوقف مع كتابه "الإسلام والحضارة الإنسانية".
يقول الكتاب تحت عنوان " الاختراعات بين العلم والدِّين" الإنسان يحب الجديد، لأنه إزاءه بين فرجة تشرح الصدر وتسر الخاطر، ولكنه فى أحوال كثيرة ينفر من الجديد، بل يبلغ من نفوره أن يرتاع منه ويرتاب بظواهره وخوافيه، وينظر إليه كأنه طامع مقتحم يريد أن ينتزع منه ذخيرة يحرص عليها.
هل فى ذلك تناقض؟ نعم فيه تناقض، ولكن فى الظاهر دون الحقيقة، وما أكثر ما تقلب الإنسان فى شعوره وهواه، ولكنه فى موقفه أمام الجديد يحبه لأسباب وينفر منه لأسباب أخرى سواها، فهو فى الحقيقة بين حبه ونفوره؛ لأن أسباب الحب غير أسباب النفور.
إننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أننا نحب الجديد ونُقبل عليه فى معظم أحوالنا، فإذا نفرنا منه وحذرناه فلا بد أن يكون فيه شيء يمس ذات المعيشة أو يمس المصالح والأرزاق، أو يمس العقائد الدينية والأوهام التى يدخلها بعض الناس فى عداد المعتقدات، فإذا كان فى الجديد مساس لعذابنا فى المعيشة أقلقنا وطرد النوم من عيوننا، ونقول إنه يطرد النوم من عيوننا حقًّا وفعلًا، ولا نقوله من جانب التعبير بالمجاز، فإن الكثيرين منا إذا غيروا سكنهم نفر النوم من أعينهم وإن كان المسكن الجديد أدعى إلى الراحة من مسكنهم الذى ألفوه، وربما حالت العادات بين الإنسان وبين منفعته عند الصدمة الأولى من صدمات التغيير.
ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك أننا فى مصر تعودنا أن نزرع القطن ونفضله فى مناطقه على محاصيل الحبوب، واتفق فى أيام الحرب العالمية أن كسدت سوق القطن، وبارت تجارته، وقلت محاصيله، وأن زراعة القمح أصبحت من الضرورات وزادت منافعها على منافع الزراعة القطنية، وأصبح شراؤه مضمونًا بالثمن المطلوب؛ لأن الدولة تشتريه وتشجع زراعته. ولكن الزراع الذين طال عهدهم بزراعة القطن ترددوا كثيرًا قبل أن يقتنعوا بتغيير ما ألفوه، وفضل أناس منهم أن يجازفوا بزراعة القطن؛ لأنهم ألفوه وتعودوا أن يستعدوا له فى موسمه على أن يزرعوا القمح المضمون؛ لأنه يكلفهم تغيير العادات المألوفة.
أما الجديد الذى يهدد الناس فى مصالحهم وأرزاقهم فلا غرابة فى نفورهم منه قبل اطمئنانهم إليه. ونحن اليوم يخيل إلينا أن أمم العالم وقفت فى التاريخ تدق الطبول فرحًا واستبشارًا باختراع البخار، ولكن الواقع أن الملاحين حطموا أول سفينة سارت بالبخار، ولما ساد البخار وكثرت الآلات التى تدار به لم يعد فيه جديد، ودخل فى عداد المألوفات، وتبين يومئذ أن البخار لا يعرقل الأيدى العاملة كما خطر للمتخوفين منه عند ظهوره، وأن الأيدى التى تعمل فيه أضعاف الأيدى التى كانت تعمل فى السفن والمركبات.
إلا أن المخترعات الجديدة قد تمس هذا النفر فتكون ثورتهم عليها أشد من ثورتهم على تغيير عادات المعيشة وتهديد المصالح والأرزاق، والمشاهد بالتكرار أن المخترعات الجديدة ليست كلها مما يثير الأوهام أو يرى فيه الجهلاء مساسًا بالعقائد ومناقضة لأحكام الدين، لكن الغالب على العقول أنها تهاب كل ما يتعلق بتكوين الإنسان، أو يتعلق بنظام الأفلاك، أو نظام السماء؛ لأن خلق الإنسان وتسيير الفلك من أمر الله.
فى القرون الوسطى كان الموت عقابًا عاجلًا لكل من يحاول أن يشرح جسم الإنسان؛ لأنهم اعتقدوا فى تلك العصور أن المشرحين يختلسون سر الحياة وينازعون الله جل وعلا فى أمر الروح. وفى العصور الحديثة، فزع الجهلاء من سماع صوت الإنسان خارجًا من آلات الحديد والخشب، وحدث فى بعض قرى الريف عند ظهور الجراموفون أن دعيًّا من أدعياء الدين حطم الجراموفون وأوشك أن يبطش بسامعيه؛ لأنهم يستمعون إلى الشيطان.
وفى بعض البلدان ذهب فريق من الفضوليين إلى دار الإذاعة، وحاولوا إغراء المذيع ليطلعهم على المكان الذى يخبئ فيه الشياطين وينقل منه أصواتهم من وراء الستار، وكان ولى الأمر حكيمًا عاقلًا فأراد أن يقضى على هذا الوهم بدليل محسوس لا يمترى فيه السامعون، قال: «هل يقرأ الشيطان آيات الله؟»
قالوا: «كلا». فأسمعهم من المذياع القرآن الكريم ومحا بذلك ظنونهم فى خديعة الإذاعة الأثيرية، فهى على التحقيق ليست من عمل الشياطين.
ومسألة النفس وتنشيط الصدر باستنشاق الهواء وتنبيه القلب بالنبض بعد فتوره، وفتح الدماغ لتصحيح عيوبه وأمراضه؛ كل أولئك كان فى عصر الجهلاء افتراء على قدرة الله أو ادعاء للقدرة الإلهية، ثم تعلموا بالخبرة وفهموا حقيقة هذه التجارب العلمية، ففهموا أنها من علم الله وأن الله هو الذى علم الإنسان ما لم يعلم، فلا يكون علم الإنسان إلا دليلًا على قدرة الله.
وفى الأيام الأخيرة يتحدث الناس بالأقمار الصناعية، فكان من الممكن أن تسمى بغير هذا الاسم، فيقال عنها كما يقال فى لغة الفلك إنها توابع صناعية للأرض، وتنتهى المشكلة باختلاف الأسماء، ولكن تسمية الجسم الطائر فى الفضاء باسم القمر أوهمت فئة من الجهلاء أن هذا الاختراع ادعاء لقدرة الله ومشاركة له سبحانه وتعالى فى ملك السماء.
ويسرنا أن نقول: إن هؤلاء المتوهمين قليلون، بل جد قليلين، فلا نظن أنهم يبلغون عشر أمثالهم قبل مائة سنة أو قبل مائتين، لو أن هذا الجسم المسمى بالقمر ظهر فى تلك الأيام، وهذه علامة من علامات التقدم فى مدى جيلين أو ثلاثة أجيال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة