في عام 2003 اصطحبني الباحث في شؤون الإسلام السياسي المرحوم حسام تمام(ت2011) لزيارة الباحث السويسري باتريك هايني وزوجته عائشة ذات الأصول المغربية، حيث كانا يقيمان بالمنيرة، على مقربة من المركز الثقافي الفرنسي وسط القاهرة.
كان وقتها باتريك هايني قد انتهى من أطروحة دكتوراه عن المجتمع المصري والإسلاميين في ضاحية إمبابة الشعبية، وكان يسميها" ضواحي غير مستأنسة أو غير مطيعة، تحولت فيها ظاهرة الفتونة والفتوة في الأحياء الشعبية إلى جهاد لتغيير المنكرباليد، وهو تحول خطير، أدى إلى وقوع عنف فترة التسعينيات من القرن العشرين، عمل باتريك كباحث في علم الاجتماع بالمركز الفرنسي للدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية"السيداج"، وفيما بعد ألف كتابه الأشهر"إسلام السوق الذي صدرعام 2005.
على أنغام صوفية للمولوية وفي أجواء الاستمتاع بالشاي والحلوى المغربية والفطائرالشهية، تحدث باتريك عن حبه لعائشة وقصة إسلامه في مصر على يد الشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، وتطرق الحديث الذي استمر حتى منتصف الليل في توقيت الحرب على العراق ومظاهرات القاهرة، إلى تأثر الدعاة الجدد والشيوخ المودرن بالبروتستانتية في الغرب وحركات الإصلاح الديني، أثناء سفرهم لفترات للدراسة ومنح التبادل الثقافي في واشنطن ولندن، فخرج جيل جديد من الدعاة بعد 11 سبتمبر 2001بعيدا عن عباءة الأزهر أو الحركة السلفية، جيل يمزج بين المفاهيم الإسلامية والحداثة الغربية، فيرتدي ملابس كاجوال عصرية ويستعمل أسلوب التفاعل مع الجمهور في الخطبة ويسمع أكثر مما يتكلم، ويعتمد على الأسئلة والأراء الشخصية، ويركز على النزعة الفردية لدى الأشخاص، حيث يطلب الداعية المودرن من كل فتاة او شاب أن يحكي عن تجربته الذاتية مع التدين أو الدين، وكيف شعر بالراحة النفسية وهو يراجع نفسه ويتصور حياته السابقة، استفاد هؤلاء الدعاة من التصوف أيضا في التركيز على الاهتمام بالذات ومخاطبة القلوب قبل العقول، وابتعدوا عن إسلام المؤسسات الدينية الذي يركز على النصوص أكثر من الفرد كإنسان، جعلت الأديان في خدمته وإصلاح علاقته مع الله الرحيم.
تناقشنا أنا وحسام مع باتريك عن تاريخ الدعاة وأسلوبهم المختلف الذي يراه وما الذي يميز عصر الشيخ عبد الحميد كشك (شرائط الكاسيت في السبعينات)، عن عصر الشيخ متولي الشعراوي(الخواطر التليفزيونية)، وحتى عصر عمرو خالد؟ هنا توقف باتريك عن طرقة صب الشاي المغربي من أعلى لأسفل، فالشيخ كشك كان يخاطب البسطاء الذين يريدون الهتافات والنبرة القوية والصيحات والأمثلة التي تدغدغ مشاعرهم وتلعب على وتر التدين اللسفي، بينما ركز الشيخ الشعراوي على اللغة العربية ومفرداتها العجيبة المتفردة بتعدد المعاني كمدخل لتبسيط الخطاب الديني، لكن الدعاة الجدد خاطبوا الشباب والنخبة، عن طريق الشبكات الاجتماعية(التدوين في عصر المدونات الشخصية(البلوجرز)، والالتزام الجديد بعيدا عن الأسرة أو المؤسسات الدينية أو التعليم الكلاسيكي، وتحول الحديث عن الحب في الإسلام والله جميل يحب الجمال إلى مدخل لجذب هؤلاء الشباب.
إذا مختصر نظرية باتريك هايني أن هناك تيار ثالث من الأسلمة ظهر في المجتمع المصري، مستلهما الأفكار الغربية عن الإصلاح الديني، ورغم أن هذا وارد من الناحية العملية، إلا أني أرى أن تطور المجتمع المصري نفسه اقتصاديا واجتماعيا، مع عصر البلوجرز(المدونين) أسهم في تحديث أسلوب الدعوة والدعاة، فتغير الجمهور نفسه وثقافته ومستواه الاجتماعي، أفرز ظاهرة الدعاة الجدد، التي تشهد صعودا وخفوتا، وفقا لطبيعة التغيرات السياسية والاجتماعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة