أول كتاب قرأته للمفكر التركي المعارض فتح الله كولن (1941-)، المقيم في منفاه الإجباري بولاية بنسلفانيا الأمريكية، كان بعنوان “ونحن نقيم صرح الروح"، وهو بمثابة رسالة صوفية تربوية، وتأملات في الكون والإنسان والحياة، ثم توالت قراءاتي في فكر الأستاذ كولن عن الحوار بين الأديان، التخصص الذي اخترته لنفسي في الحياة الأكاديمية والمهنية. ورغم الصخب الدائر سياسيا حول حركة كولن، إلا أنني لم أتأثر به لعدم موضوعيته وأرى أن التاريخ الحقيقي لا يمكن أن يكتب في ظل وجود صناع الأحداث على قيد الحياة، والصراع الدائر بين حركة تعليمية تربوية وتيار الإسلام السياسي.
مؤخرا دعتني العميدة الدكتورة هدى درويش أستاذ الأديان المقارنة بجامعة الزقازيق لحضور مناقشة رسالة دكتوراة عن حركة كولن بمعهد الدراسات الآسيوية العليا بجامعة الزقازيق بعنوان “الدور الإصلاحي لجماعة الخدمة في تركيا: دراسة تحليلية”. للباحث عمر صلاح الدين عليوة المسلمي، وقد أكد الباحث أن حركة الخدمة" أو "خدمة ربنا" امتداد لجماعة النور نسبة إلى رسائل النور للمتصوف الإصلاحي ذو الأصل الكردي بديع الزمان سعيد النورسي (ت1960) .
أكَّد الباحث أن فتح الله كولن حاول من خلال دعوته أن يبني إنسانًا قريبًا من الإنسان الذي بناه الرسول صلي الله عليه وسلم في مكة والمدينة، وكان المنهج هو القرآن الكريم والسيرة النبوية التي يتعامل معها بالقلب قبل العقل، وبتحريك الوجدان قبل اللسان. بهدف إيجاد مجتمع إسلامي ملتزم، لكن في الوقت نفسه متلهف للمعرفة والتكنولوجيا الحديثة والتقدم. ومن هنا تميزت جماعة الخدمة بأنها جماعة أو حركة تمزج الحداثة بالتدين.
كما أشار الباحث إلى أن جماعة الخدمة في سياق دورها الإصلاحي في معالجة المشاكل الاجتماعية، استخدمت جميع الوسائل المتاحة بهدف المشاركة الفعالة في داخل تركيا بنشر المدارس وفصول التقوية والمعاهد التحضيرية والجامعات، أو المساهمة في مشروع بيوت الطلبة لغير القادرين من أبناء الريف، كل ذلك وغيره ساعد قطاعًا كبيرًا من أبناء المجتمع التركي. فضلا عن الهدف الأسمى والأرقى للجماعة والمتمثل في نشر قيم التسامح والأخلاق والفضيلة، والعمل على بناء جيل مسلم يمتاز بخصوصية ثقافية عالمية، وخلفية إسلامية ناضجة وراشدة. هذا إلى جانب مهارة الجماعة في استخدام وسائل العصر الحديث، للوصول لأكبر قدر ممكن من الشعب التركي بصفة خاصة، وباقي دول العالم عامة، لترسيخ مفهوم الوعي بحقائق القضايا الإيمانية بصورة مبسطة، والسعي لتأصيل أفكار الجماعة في المجتمع التركي.
وبينما تحدثت الدكتورة هدى درويش عن أن حركة كولن أثبتت مرونة الإسلام للعالم، وأن الإسلام دين الرحمة والتسامح والتسامي والتصوف إلا أن الدكتور فتحي العفيفي استعرض تاريخ الحركات الإسلامية في تركيا التي حاولت ملء فراغ سقوط الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، منتقدا إسهام حركة كولن في تقوية بنية الإسلام السياسي وفتح المجال أمامها في بداية عهد أردوغان، الذي أقام حكمه على أكتافها، قبل أن ينقلب عليها وعلى أستاذه فتح الله كولن إلى حد شيطنة الحركة ومؤسسها واتهامهم بمحاولة الانقلاب عليه بمساعدة قطاع من الجيش وبعض مؤسسات الدولة وقد فجرت دراسة الدكتوراه عدة إشكاليات ومنها سر هجوم الأصوليين على الحركة وعلاقتها ببنى الاستبداد في الإسلام السياسي وكيف انقلبت عليه، والإطار الفقهي والفكري للحركة، التي تتخذ من التربية والتعليم مجالا لنشر أفكارها.
كل شخصية إصلاحية مختلف عليها، وسواء كان كولن وجماعته يمثلون "المسلمين اللطفاء الودوديين" أو حركة لها توجهات تربوية تعليمية، إلا أنها تظل فكرة تمثل جانبا مهما من جوانب الإسلام الروحية التي سعى الإسلام السياسي لإفسادها والتشكيك في أهدافها، لإزاحتها من المجال العام، ليظل وحده حاملا وهم الخلافة ومزاعم تمثيل الإسلام، في أسوأ توظيف ومزج للدين بالسياسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة