من الكتب المهمة التى تستحق القراءة كتاب "تاريخ الشرق الأوسط من الأزمنة القديمة إلى اليوم" لـ جورج قرم، ويتناول الكتاب جغرافية الشرق الأوسط وتاريخه قديماً وحديثاً بشمولية وموضوعية، حيث نشأت أهم الحضارات فى تاريخ البشرية، ومنها الحضارة الإسلامية، مفسِّراً سبب استهداف هذه المنطقة وأهميتها، ومعلِّلاً ما ضربها من أحداث وما تناوب عليها من حضارات، ويضع رؤية لما يمكن أن تؤول الأمور إليه مستقبلاً فى ظل مختلف العوامل الفاعلة، وفى ضوء الإمكانات البشرية والثروات الطبيعية والأوضاع العالمية والتحالفات القائمة وتبدُّل موازين القوى وتزعزع البنيان الاقتصادى وثباته.
يقول الكتاب تحت عنوان "الفتوحات العربية والخلافتان الأمويّة والعبّاسية (659- 945)":
قضى الفتح العربى، الذى أعقب النبوّة التوحيدية الإسلامية، نهائيّاً على القوة الفارسية، وردّ الإمبراطورية البيزنطية التى كانت تسيطر على مصر وشمال إفريقيا والواجهة المتوسطية للهلال الخصيب على أعقابها.
وفى فترة أولى، أعقب النبى محمّد أربعة خلفاء، تمّ تمييزهم عن غيرهم بلقب "الخلفاء الراشدين"، وأقاموا فى المدينة المنوّرة (632 - 650)، ولن تلبث الخلافة أن تُنقل إلى دمشق طيلة ما يقارب القرن قبل أن تستقر فى بغداد فى ظل سلالة العباسيين.
واعتبر الخلفاء المسلمون أنفسهم أنّهم "وكلاء اللَّه على الأرض"، وهم استعادوا بذلك المصطلح الأشورى – البابلى، بل ادعوا أيضاً وراثة الخلافة الزمنية للرسول، بيد أن حكم الخلفاء العرب سيكون عابراً فى مقياس تاريخ الشرق الأوسط، حيث إنه لن يستمرّ فاعلاً سوى ثلاثة قرون ونصف القرن، ولا جرم فى أن الخلافة العبّاسية ستستمر اسميّاً حتى الغزو المغولى الفتاك فى عام 1258 الذى دمّر بغداد وقتل الخليفة وعائلته.
والحقيقة أن القوة السياسية التى حاز عليها العرب بفتوحاتهم العظيمة التى أوصلتهم حتى إسبانيا غرباً وإلى كل آسيا الوسطى، أصيبت بالإنهاك من جراء النزاعات الداخلية المرتبطة بخلافة الرسول، وهذه النزاعات هى التى أدّت إلى الانشقاق الكبير بين السنة والشيعة المستمر حتى اليوم، فالأوّلون يعترفون بنظام إرث الخلافة من خارج عائلة النبى وشرعيته، بينما يعتبر الآخرون، أنصار الإمام على، ابن عم الرسول وصهره أن إرث الخلافة لا يمكن إلا أن يعود إلى "أهل البيت" أى إلى العائلة المباشرة للرسول والمتحدرين منها.
وستكون الخلافة الأموية فى دمشق (659- 750) هى التى ستحقق فتح شمال أفريقيا، وإسبانيا، والهلال الخصيب وساحله المتوسطى، وإيران. أمّا الخلافة العباسية فقد أعادت إلى بلاد ما بين النهرين مجدها السابق وركّزت عاصمتها فى بغداد، المدينة الجديدة التى أُسّست فى العام 762، على بعد ثلاثين كيلومتراً من بابل.
وصل العباسيون، المتحدرون من عائلة النبى، إلى السلطة عبر ائتلاف عرب مناوئين للأمويين وعناصر إيرانيين من مقاطعة خورسان. سيقدّم هذا الائتلاف نفسه على أنه إحياء متشدد للإسلام. غير أنه فى ظل العباسيين، وبخاصة فى ظل خلافة هارون الرشيد (786- 809) بل وأيضاً المأمون (814- 833)، ستبلغ هذه الإمبراطورية العربية كامل تألّقها وتصل بالحياة الفنية والأدبية والفلسفية والعلمية إلى أوجها.
استوعبت الثقافة العربية فى الواقع تراث الفلسفة الإغريقية الذى عبر فى ما بعد إلى أوروبا من خلال إسبانيا العربية، حيث ازدهرت الحرية الدينية والفلسفية، وكذلك الشعر، والموسيقى، والطب، وعلم الفلك.
إلا أن هذه الإمبراطورية تآكلتها منذ البداية النزاعات المستمرة بين الشيعة والسنّة، ونشوء أعداد كثيرة من الطوائف الدينية المبتعدة فى عقيدتها عن المذهبين السنى أو الشيعي، والتنامى المتواصل لقوة حرس الخلفاء من الأتراك أو الإيرانيين. وهذا ما أدّى بدءاً من نهاية القرن التاسع، إلى تكوين ممالك وإمارات وسلطنات مستقلة ومتناوئة، منتزعة من الخلفاء كل سلطة فعلية.
ولنسمِّ، من بين هذه السلالات، البويهيين، وهم من الإيرانيين الشيعة من جبال ديلم فى إيران (932 - 1055)، والطولونيين فى مصر وسوريا (868 - 905)، والحمدانيين وهم سلالة عربية حكمت شمال سوريا من حلب (929 - 1003). وفى بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية، شهدت نهاية القرن التاسع أيضاً ثورة العبيد السود الزنج الشهيرة (869 - 883)، ثم ثورة القرامطة الإسماعيليين (عقيدة متفرّعة من الشيعية).
استولى السلاجقة الأتراك على بغداد فى العام 1055، وأعادوا إحلال السنّة عقيدة رسمية. إلا أن السلطة السلجوقية ضعفت بدورها. وفى العاشر من فبراير 1258، دمّر هولاكو على رأس القوات المغولية، بغداد وأعدم آخر خليفة عباسى كان لا يزال يحكم فيها آنذاك اسميّاً والذى سيلجأ بعض أفراد عائلته إلى القاهرة. سقطت بلاد ما بين النهرين عندها من جديد فى انحطاط متواصل، وهى التى ستصبح بعد ذلك موضع تنازع بين أسياد السلالات التركية السنية والسلالات الإيرانية الشيعية.
وقد أصبحت فى القرن الثامن عشر مقاطعة مهمَلة من مقاطعات السلطنة العثمانية حتى الاحتلال الإنجليزى الذى أولد العراق الحديث. بيد أن شعوب الهلال الخصيب والسواحل السورية واللبنانية والفلسطينية والمصرية أصبحت مستعربة استعراباً نهائيّاً على الصعيد الثقافي. وسيصوغ سكان مصر وشعوب الإمبراطوريات الفارسية والنيوبابلية والأشورية القديمة، الآراميون والكلدان والسريان والأشوريون، الثقافة العربية الكلاسيكية التى لا تزال سائدة إلى أيامنا هذه. وبالرغم من أن العربية هى لغة الوحى القرآني، فإن مختلف الكنائس المسيحية للسكان المحليين، الذين تنصرنوا على يد رسل المسيح، ستتبنى بشكل كبير، وبإيقاعات مختلفة بحسب المناطق، اللغة والثقافة العربيتين؛ وسيتم تنحية مختلف بدائل اللغة الآرامية إضافة إلى اليونانية الواسعة الانتشار منذ فتح الإسكندر إلى مصاف اللغات الطقسية.
عرفت الأندلس العربية مصيراً شبيهاً بمصير منطقة بلاد ما بين النهرين والهلال الخصيب. وقد أنجزت فى العام 699 فتح شمال أفريقيا باسم الخلافة الأموية فى دمشق على حساب الإمبراطورية البيزنطية. واجتازت الجيوش العربية - البربرية، سنة 711، مضيق جبل طارق - واسمه كناية عن إدغام باللغة العربية لكلمة جبل ولاسم قائد الحملة العسكرية (طارق). تحررت الإمارة المُنشأة فى إسبانيا، وعاصمتها قرطبة، من وصاية الخلافة العباسية التى حلّت فى عام 773 محلّ الخلافة الأموية. وهذه الخلافة الأندلسية، الأموية الأصل، ستتألق هى الأخرى فى ميادين مختلفة، فلسفية ودينية وعلمية (علم الفلك والطب فى صفة أخص)، بفضل شخصيات مرموقة مثل الفيلسوف ابن رشد (1126 - 1198)، وابن الميمون (اليهودى الدين)، والمتصوف الكبير ابن عربى (1165- 1240)، إضافة إلى الرحالتين الشهيرين ابن جبير (1145- 1217) وابن بطوطة (1304- 1377) اللذين ترك كلاهما روايات شهيرة عن سفراتهما، من دون أن ننسى طبعاً أول علماء الاجتماع، ابن خلدون (1332- 1406).
ضرب الانحطاط نفسه، الذى أصاب الخلافة العباسية، الخلافة الأموية فى قرطبة. وهي، تحت وطأة النزاعات الداخلية العنيفة، بدأت تتقسم بدءاً من القرن الحادى عشر إلى إمارات صغيرة على يد ملوك الطوائف الذين أخذوا يخوضون فيما بينهم حروباً مستمرة. وسيسهّل هذا الانحاط النجاح المتنامى لإعادة السيطرة الإسبانية التى أخذت تتوسع بشكل سريع بدءاً من هذه الحقبة: تمت خسارة طليطلة فى العام 1085، وقرطبة فى العام 1236، وإشبيلية فى العام 1248. وفى العام 1492، تم بشكل نهائى طرد العرب واليهود من شبه الجزيرة الإيبرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة