الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاصمة اللبنانية بيروت، والتي تضمنت العديد من الجوانب الرمزية، كلقائه مع السيدة فيروز، والتي يراها قطاعا كبيرا من العرب رمزا يتجاوز النطاق الجغرافى للبنان، ليمتد إلى ما هو أبعد من ذلك إلى النطاق الإنسانى بأكمله، وكذلك الصورة التي جمعته بالفنانة ماجدة الرومى، والتي تحمل نفس الهدف، ربما تحمل في طياتها رسالة صريحة مفادها أن الأوضاع في لبنان باتت تتجاوز السياسة لتصبح المسألة إنسانية في المقام الأول.
إلا أن المشهد الإنسانى في السياسة الدولية، في جوهره، لم يعد حكرا على لبنان، والذى يشهد أوضاعا مأساوية، سياسيا واقتصاديا، إلى جانب الدمار الذى لحق ببيروت جراء الانفجار الكارثى الذى حل بها في 4 أغسطس الماضى، وإنما أصبح العامل المشترك الأبرز، في العديد من القضايا التي تشهدها الساحة العالمية، في ظل كوارث متلاحقة، بدءً من حالة الدمار التي لحقت بالعديد من العواصم العربية، جراء ما يسمى بـ"الربيع العربى"، مرورا بتهديدات ارتبطت بتنامى نفوذ الجماعات الإرهابية، وانتهاءً بتفشى فيروس كورونا فرضت في السنوات الماضية، وجها جديدا للنظام العالمى بل ومعايير مختلفة للقوى التي يمكنها قيادته.
تحركات ماكرون في لبنان، ربما تحمل في طياتها طموحا في دور أكبر لفرنسا على الساحة الدولية، إلا أنها في الوقت نفسه تمثل امتدادا صريحا لمحاولات أخرى تبنتها القوى الدولية الأخرى، لتقديم نفسها باعتبارها قادرة على تلبية متطلبات الحقبة الجديدة، وإن كان ذلك بصور مختلفة.
فلو نظرنا إلى النموذج الصينى، نجد أن تفشى فيروس كورونا في الغرب الأوروبى، سواء في إيطاليا أو إسبانيا أو فرنسا، أو حتى في الولايات المتحدة كان بمثابة فرصة جيدة لتقديم خدمات بكين، مما يساهم في تعزيز العلاقة بين "التنين" والشعوب الأوروبية، وهو ما يدحض الادعاءات التي ينشرها الإعلام، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، حول الدور الصينى، في زعزعة الاستقرار الاقتصادى لدول الغرب.
ولم تكتفى بكين بمغازلة الغرب الأوروبى والأمريكى، وإنما حرصت كذلك على تقديم يد العون للدول النامية، بل تحدث عدة مسئولين عن إمكانية تقديم لقاح صيني لعلاج الفيروس القاتل مجانا للدول الفقيرة، في إشارة إلى وجه إنسانى جديد للسياسة الدولية، ربما يصبح معيارا مهما للقيادة الدولية، بعد حقبة سادت فيها الوحشية السياسية، جنبا إلى جنبا مع سياسات اقتصادية دأب قطاع كبير من المتابعين على وصفه بـ"اللا إنسانى".
السياسات الصينية تواكبت مع حالة من التخلي الأمريكي، ليس فقط تجاه الخصوم، وإنما أيضا تجاه حلفاء واشنطن، مما ساهم في تحسن صورة بكين على المستويين السياسى والشعبوى في الأشهر الماضية، وبالتالي تعزيز الثقة الدولية في قدرتها على تقديم الدعم للعالم في تجاوز أزماته في المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن دموع ماكرون وأحضانه للبنانيين، ولقائة مع رموز الفن والثقافة في لبنان هو امتداد لحالة دولية عامة، تشهد تغييرا عميقا في النظام الدولى، بينما أصبح معيار "الإنسانية" أحد المتطلبات التي يجب توفرها في القوى الدولية الجديدة، التي يمكنها مزاحمة الولايات المتحدة على قمة النظام الدولى الجديد، في عالم لا يبدو أحاديا كما هو الحال منذ ما يقرب من 30 عاما، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى وانفراد واشنطن بالقيادة العالمية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة