ناهد صلاح

لكم كراكيبكم ولى كراكيبى

الجمعة، 04 سبتمبر 2020 08:23 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وحدى وقفت على سطح المدينة، بنظرة بانورامية واحدة للقاهرة من أعلى نقطة فى حديقة الأزهر، لملمت تفاصيل تفضح ولا تستر الأمكنة؛ كانت فى حد ذاتها كافية لانكسارى على ظل ما تبقى من أطلال، هى ذاكرة لتاريخ انقضى ونفى لمنطق حاضر ما زال قائماً، لكن ماذا تبقى فى المجال الحيوى لهذه المدينة؟ عند حافة حديقة الأزهر التى استغلت فى الماضى كمقلب للقمامة لأكثر من ألف عام، قبل أن تصبح طولاً وعرضاً صورة مصغرة للطبيعة الأم بجمالها التراجيدى، الموزع على مساحة شاسعة يتدرج فيها اللون الأخضر مع هجمة الشمس على سطح بحيرتها الصغيرة، عند تلك الحافة رأيت هشاشة الخيط الرفيع بين الجمال والقبح، ناس يلجأون إلى الحديقة ويندمجون فى إيقاعها بحثاً عن إنسانيتهم؛ رجل يستند على جذع شجرة يقرأ الصحيفة، الأمهات والأطفال والأحبة كما فى الأفلام القديمة، امرأتان تهرولان فى حركات رياضية أملاً فى خسارة ولو جرام واحد من الوزن وفقدان الكثير من الملل، وناس آخرون فى الناحية الأخرى من الحافة تخطفهم دوامة العشوائية. 
   
من موقعى البانورامى لا يسعنى سوى أن ألتفت مرة هنا ومرة هناك، هامش أبيض فى السماء لا يخبرنى بشيء وإن طبعت الشمس ظلالاً لبيوت عشوائية مرمية فى شوارع مدينة تشيخ ولا تمنحك غير عجرفة التاريخ وطبل وزمر الحاضر، أتذكر بينما أحاول أن أحصى المساجد والأضرحة بنظرتى الفوقية التى تتسع وتضيق حتى تصطدم كل مرة بقلعة صلاح الدين الأيوبى، ثم تباغتها لافتة جانبية كبيرة لـ"كومباوند" أو تجمع سكانى فخم على جبل المقطم، فأضحك لأنى تذكرت حلقة تليفزيونية قديمة كان ضيفها فنان تشكيلى سألته المذيعة عن أعماله، فراح يشرح لها باستفاضة عن المزج بين الأصالة والمعاصرة وهو يستعرض نماذجاً لفنه، ولما استعصى الأمر على المذيعة العبقرية حسمت المسألة ببساطة وهى تشير إلى نموذجين مختلفين وقالت: "يعنى باختصار حضرتك عايز تقول: الأصالة فى الحصيرة والمعاصرة فى الحديدة".
 
رأس القاهرة تقطنها كراكيب تتنوع وتكبر حتى تتوحش.. علب الصفيح وفوارغ الزجاجات البلاستيكية والأكياس وأسياخ الحديد وبقايا الورق والخشب وربما أحذية قديمة وأجهزة كمبيوتر محطمة، ولا نجاة من تأويل هذه الفوضى المأهولة بالمراوغة؛ يدور بى المشهد حتى تضيق الصورة على أبنية متناقضة، غرائبية ومع ذلك تألفها ولا يمكنك أن تفر منها، بل تظل ذكرى بائسة تسكنك كجلدك وتسبح فى دمك مشاعر الهجاء والغضب، فلا تستطيع أن تلجُم الريح التى تمزق الصدور وتدفعها خارج الحيز الأدمى، إنه الشعور ذاته الذى داهمنى حين شاركت المخرج العراقى ليث عبد الأمير فى فيلم "دمعة الجلاد"، فركضنا نحو مسجد السلطان حسن ومن أعلى نقطة فيه أيضاً صورنا عدة لقطات لرأس القاهرة وكراكيبها علنا نصل إلى إجابة السؤال: من المسئول عن هذه "الكركبة"؟ ومن المسئول عن فقر وجهل صبى ينحرف مساره إلى عالم المخدرات ثم يقتل فناناً تشكيلياً عجوزاً لأن عقله الغائب صوّر له أنه يتاجر فى الآثار وأن التماثيل الموجودة فى بيته ما هى إلا آثار مسروقة، وبالتالى فإن العجوز لص يمتلك أموال كثيرة ويستحق السرقة، ولم يدرك فى لحظته الغائبة أن العجوز هو رجل فقير يعيش فى شقة "على قد الحال" فى مصر القديمة؟!
 
الكراكيب إذن كما الإرهاب، إنها دين وعقيدة ضحايا الفساد والفقر، يتصور البعض أن من يعتنقون فكرة "تكوّيم" الكراكيب لا يؤذون إلا أنفسهم التى يأسرونها فى غرف التخزين، لكن هذا النزوع يؤذى الجميع فبخلاف القبح والفوضى وسطوة النفايات‏، تسد الكراكيب الأفق وتستولد مشاعر اليأس‏ والإحباط؛ لعل هذا ما قصدته البريطانية كارين كينج ستون فى كتابها الشهير "عبودية الكراكيب"، ترجمته مروة هاشم ونشرته دار شرقيات منذ سنوات عدة، حين أطلقت صيحتها التحذيرية من وحش الكراكيب الذى يلتهم الطاقة الإيجابية.
 
رأس القاهرة "مكركبة" ورأس المواطن "مصري" امتصت كل إشعاعات "الكركبة" حتى صارت كحجر رشيد تستعصى على القراءة ما لم تفهم اللغة وتدرك الفكرة، يحمل المصرى كراكيبه كما يحمل أوراق هويته نهاراً حتى مساء يعود فيه إلى بيته ويسهر ليله أمام شاشات تحمل كراكيبها المرئية، أخبار وبرامج ومسلسلات وأفلام تتوالى وتتلوى كالثعابين فى الرؤوس، أما رأسى أنا فقد صار يابساً بعد أن نفد منه الكلام واندثر، ونفسى أصبح مقطوعاً من تلوث القاهرة الطبيعى والصناعى، قال لى الطبيب: "رئتك هايبر أكتيف، إهدى شوية"، فطالعتنى صورة غادة الكاميليا كما فى أفلام كثيرة أجنبية أو مصرية، جريتا جاربو أو ليلى مراد، لا تسيطر على نوبات سعالها وتفقد حبها الذى كان دعمها الأكبر فى التنفس والشفاء من الرذيلة الاجتماعية والمرض ثم تموت بـ"السل" على فراشها وحبيبها يحتضنها نادماً وباكياً، وتراوغنى زينب فى الفيلم الذى يحمل اسمها، أخرجه محمد كريم فى العام 1952، زينب فى صورة راقية ابراهيم، النموذج الهوليوودى فى الجمال، المرأة الناعمة ومتفجرة الأنوثة بخدودها الحريرية وعيونها الناعسة وصوتها الممطوط، المُنغم، الحاضر بتأوهاته، تواجه ثقافة التسلط الذكورى وعدم احترام كيانها كامرأة، هذا النموذج الإغرائى الصارخ أو كما يصفه النقاد بـ "النجمة الغندورة"، نموذج لامرأة مستكينة، مستسلمة لمصيرها، مقهورة تصرخ بعبارتها الشهيرة التى أطلقتها وهى تترك بيت زوجها وأهله القساة: "اللى مالوش أهل الحكومة أهله"، بينما هدى كما قدمتها فاتن حمامة فى "أيامنا الحلوة" (1955) إخراج حلمى حليم، إذ تدرك أنه لا مفر من النهاية وتفضل أن تعيشها على طريقتها وهى تشهد اللحظات الأخيرة لرحيل الأحباء من نافذتها، تحتفظ بالصورة الأخيرة لهم فى قلبها الذى ينغلق بعض قليل.
 
المهم.. لدى الآن ما يجعلنى أفر من كراكيب المجتمع، لأنفرد بكراكيبى وأنتقل بها من الغامض العام إلى الغامض الخاص، من اختلاط الأزمنة بالأمكنة إلى تعدد الشخصيات، والأهم أن أحافظ على موقعى فى السباق الافتراضى بين الجميع الافتراضى على أطراف المجتمع الافتراضى، ولا أخضع لنصائح ليمونهم وعسلهم وقرفتهم وزنجبيلهم، بل أمتص غبارهم، فيما تطاردنى نظرة مربكة فى عينى نفيسة كما جسدتها سناء جميل، تتكدس فيها البؤس والعلة والبداية والنهاية كما رصدها نجيب محفوظ فى روايته الشهيرة، وقدمها صلاح أبو سيف فى فيلمه الصادر عام 1960، كاشفاً الشذوذ الخلقى والجنسى لمجتمع يمتص آدميته حتى القطرة الأخيرة، حيث جاء انتحار نفيسة ليجرنا إلى مصير من الفراغ الجاثم واجهناه معها، كما واجهته إحسان شحاتة، بأداء متميز لسعاد حسنى فى رواية ثانية لنجيب محفوظ هى "القاهرة 30" (1966) أخرجها أيضاً صلاح أبو سيف، أو حميدة، واحد من أروع أدوار شادية، فى "زقاق المدق" (1963)، رواية أخرى لنجيب محفوظ من إخراج حسن الإمام.
 
أما عزيزة فتتبعنى بنظرة صاغرة، مقهورة، إنها الفلاحة الفقيرة الشقيانة التعسة التى يُصاب زوجها بالبلهارسيا، فيصبح طيف رجل فى البيت بينما تتحمل وحدها الشقاء وتعمل فى "الترحيلة" مكانه وتعود للبيت تقوم بمهامها كأم وزوجة ثم تموت كسيرة بعار مجتمع الفقر الذى لا يرحم الضعيف ويندفع كالصهيل ليقضى عليه تماماً، صوت فاتن حمامة يجسد حالة عزيزة الذليلة فى فيلم "الحرام" (1965) من إخراج هنرى بركات عن قصة يوسف إدريس، يندب لها وعنها فى حضرة تخاريف المرض الاجتماعى الميئوس منه: "جدر البطاطا اللى كان السبب يا ضنايا"، نهاية تتلاقى بشكل ما مع خاتمة شفيقة (سعاد حسني) فى "شفيقة ومتولي" (1978) إخراج على بدرخان، امرأة ليست زاهدة فى مجتمع ناسك، إنما كانت أشبه بـ"زجاجة مياه غازية " تجرعها الرجل ثم انتهى الأمر  بروح باردة، وانتهى حالها بالعنوان البراق والمتواصل "الانتقام للعرض والشرف"، إنها لم تختر لا العنوان ولا العرض ولا الشرف، الكل تبارى فى مصرعها السهل الصعب، الكل على يديها "بانو بانو بانو" كما تقول أغنيتها الشهيرة:"وعصير العنب العنابى العنابي/ نقطة ورا نقطة يا عذابى يا عذابي/ يكشف لى حبايبى وأصحابي/ يوحدنى وأنا ف عز شبابي/ القلب على الحب يشابى والحب بعيد عن أوطانه".
 
الآن جاء دورى لأتعقب ليلى بنظرتى المتسائلة، ليلى (فاتن حمامة) فى "الباب المفتوح"، ألاحقها حين تعبره، أشعر بها وأعرف كيف لم يساورها أى شك تجاه المجهول الذى كان ينتظرها، المجهول الذى نتجرعه الآن، نحن من سرن وراء ليلى بـ"قلب جامد"، ليلى قادها رجل اسمه حسين للتحرر من قيود تبعيتها لمجتمع لا يهتم بالمرأة ككائن مستقل، لكنها صارت ظلاً لهذا الرجل، ليلى كما أرادتها الكاتبة لطيفة الزيات وقدمها الفيلم الذى أخرجه هنرى بركات فى العام 1963،  بالتأكيد غير "ليلى بنت الريف" كما قدمتها ليلى مراد فى الفيلم الشهير الذى أخرجه توجو مزراحى فى العام 1941، الفلاحة التى تجيد اللغة الفرنسية ودرست فى "الميردى دييه"، وبما أنه كل على ليلاه يغنى، فأنا أغنى على ليلى الذى يشتهى خطوة صاعدة تتفادى أكوام الكراكيب الخارجية، ليلى أنا يرفض أن يدجن الموت ويتبع صفارة الليل التى تتنغم بها حشرات الحقول كما فى قريتى الصغيرة التى كانت تطرد عنى همى، كامرأة تطلق ساقيها فى ريح عبثية علها تحملها لتزرعها فى مكان مستقر، تقف كما إيرين بروكوفيتش فى الفيلم الأمريكى الصادر فى العام 2000، يحمل اسمها من إخراج ستيفن سودبيرج، امرأة عزلاء إلا من إرادتها فى الحضور دون أن يغويها القلب بالاستسلام للمكاسب السريعة، تفضل أن تصعد سلم الحياة الحجرى الحلزونى لتصل إلى مبتغاها، متجاوزة فكرة التعب أو انسداد الهواء فى الشعب الرئوية أو الخضوع لرجل يقف على طرف حياتها، لن تسمح له أن يفرد ظله فينفرد الظلام على الصورة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة