كان الوقت فى الصباح الباكر يوم 26 يناير، مثل هذا اليوم، 1952، حين خرج مئات من قوات «بلوكات النظام» من ثكناتهم فى العباسية فى مظاهرة تهتف بسقوط الاستعمار، وتطالب بالثأر لشهداء مذبحة الإسماعيلية التى وقعت فى اليوم السابق، فى الاشتباكات بين الشرطة المصرية، وقوات الاحتلال الإنجليزى، حسبما يذكر «كمال الدين رفعت» أحد قيادات ثورة 23 يوليو 1952، وأحد قيادات المقاومة الفدائية التابعة لتنظيم الضباط الأحرار فى منطقة القنال فى مذكراته «حرب التحرير الوطنية بين إلغاء معاهدة 1936 وإلغاء اتفاقية 1954»، إعداد، مصطفى طيبة.
كانت هذه المظاهرة هى الافتتاح ليوم حريق القاهرة الذى وقع أثناء الحكومة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس، و«يعد من الأيام التى يعجز المؤرخون عن تفسيرها»، وفقا لرأى الدكتور محمد أنيس فى دراسته «حريق القاهرة على ضوء وثائق تنشر لأول مرة».. يذكر «رفعت»، أن المتظاهرين توجهوا إلى حرم جامعة فؤاد الأول «القاهرة حاليا»، وامتزجوا بالطلبة فى مؤتمر حضره عمال ومثقفون وعدد من «الضباط الأحرار»، وخرجت المظاهرة من الجامعة إلى مجلس الوزراء لتلتقى بمظاهرة أخرى قادمة من الأزهر، وخرج الوزير عبدالفتاح حسن من شرفة مبنى مجلس الوزراء وخطب، ووفقا لمذكراته «ذكريات سياسية» قال: «رقابنا قبل رقابكم، وصدورنا قبل صدوركم، والله معنا».
يذكر «رفعت» أن المظاهرات امتدت فى أجزاء متفرقة من العاصمة فى ذلك اليوم، وفى نحو الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، رأى بعض المتظاهرين فى ميدان الأوبرا رجلا يحتسى الخمر مع راقصة فى شرفة كازينو بديعة مصابنى، فصعد إليه عدد من الغاضبين، وقاموا بتعنيفه على استهتاره، بينما مواطنون يموتون فى القنال، فتحول الأمر إلى مشادة ثم اشتباك، ثم هجوم عدد من المتظاهرين على الكازينو وتكسير أثاثه وحرقه، وعندما جاء رجال الإطفاء مزق البعض خراطيم المياه بالأيدى، ثم تفرق الجميع بعد وصول إمدادات بوليسية أطلقت الرصاص فى الهواء.
توالت الأحداث.. يذكرها الكاتب الصحفى جمال الشرقاوى فى كتابه «حريق القاهرة، قرار اتهام جديد» قائلا: «انتشرت الحرائق لتغطى قلب القاهرة، ولتشمل كل المنطقة الواقعة بين ميدان الأوبرا شرقا والإسعاف غربا، وبين ميدان المحطة «رمسيس» شمالا وميدان الإسماعيلية «التحرير» جنوبا، ولتمتد أيضا إلى الأطراف البعيدة من العباسية والظاهر شمالا إلى شارع الهرم جنوبا».
يؤكد الشرقاوى: «بين الساعة الثانية عشرة والنصف تقريبا نهارا، والحادية عشرة مساء كانت النار التهمت 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب وشقق سكنية ونادى».. وفى يوم 8 مارس 1952 أعلن النائب العام بيانه عن أحداث اليوم، وقال فيه : «قتل 36 شخصا، وأصيب 552 بجروح، وتشرد آلاف من العاملين فى المنشآت التى احترقت، وقدر عددهم بمن يعولون من أسر بعشرين ألف نسمة، وقدر الخبراء الأجانب الخسائر المادية بأربعين مليون جنيه إسترلينى، وقدرها الخبراء المصريون بمائة مليون».
يضيف الشرقاوى متعجبا: «بينما كانت ألسنة النار ترتفع من معظم شوارع قلب العاصمة، كان الملك فاروق رأس الدولة المصرية، والقائد الأعلى لقواتها المسلحة يقيم «عزومة» فاخرة، ضيوفها هم أنفسهم ضباط جيش وبوليس مصر حماة أمنها وسلامتها، وكان ذلك أمرا غريبا بكل المقاييس.. لا تفسير له إلا أن يكون الملك مجنونا فقد كل إحساس بالمسؤولية، أو ضالعا فى مؤامرة حريق القاهرة، وأن العزومة نفسها جزء من المؤامرة».
يذكر«الشرقاوى»: «حضر جلالة الملك إلى القاعة التى تجمع بها الضباط.. صدحت الموسيقى بالسلام الملكى والجميع وقفوا يؤدون التحية للملك، قدم الفريق محمد حيدر بوصفه القائد العام للقوات المسلحة كبار المدعوين من الضباط إلى الملك، الذى صافحهم واحدا واحدا باليد، وكان عددهم 104 ضباط.. توجه الضباط إلى المائدة وجلس كل منهم فى مكانه.. حضر الملك بعد أن جلس الجميع فى أماكنهم، وكان قد غادر القاعة إلى قاعة أخرى بعد أن سلم على كل كبار الضباط..بدأ تناول الغداء ثم الحلوى، ثم مر أحد الشماشرجية بحمل ولى العهد الرضيع، ويمر به على الموائد ليراه الضباط».
يضيف الشرقاوى: «انتهت المسألة بنفس الصورة التى كان مقررا لها.. الساعة الثانية والنصف، وكأن شيئا لم يحدث - ولا يزال يحدث - فى القاهرة».. يتساءل: «كيف يمكن تقييم هذا السلوك من ملك تحترق عاصمة ملكه؟.. ألم يتسبب عمليا بالاستمرار فى المأدبة الملكية فى شل يد الحكومة شلا كاملا بحرمانها من كل قيادات البوليس «50 ضابطا»، بينهم كل الرئاسات العليا وكل مأمورى أقسام القاهرة، واضعا إياها فى مركز العاجز أمام المخربين؟، ألم يقف هو نفسه وهو ملك البلاد موقفا سلبيا تماما، فلم يطلب من الحكومة أو الجيش القيام بعمل ما لمنع الكارثة، فما تفسير ذلك؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة