أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

حسن حنفى.. رحيل مفكر وفيلسوف من عصرنا

الجمعة، 29 أكتوبر 2021 08:54 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فقدت مصر والأمتين العربية والإسلامية مفكرا وفيلسوفا من عصرنا هو الدكتور حسن حنفى الذى قضى جل عمره فى قاعات الدرس والمؤتمرات والندوات والنقاشات حامية الوطيس، والتى كان يزداد فيها توهجا كلما تقدم به العمر، وأسرعت به السنون نحو (كل نفس ذائقة الموت)، وهكذا عنون فصل مذكراته الأخير، فقد عاش الرجل زاهدا كل شىء إلا المعرفة وفلسفتها، التى قضى فى محرابها طويلا يعيد القراءة تلو القراءة فى كثير من مسلمات التراث والتحديث والحداثة منطلقا من سؤال جوهرى ظل برأسه دائما، هو هل التراث الإسلامى عامل نكوص أم عامل انطلاق نحو النهوض لهذه الشعوب التى انطلقت به بالأمس القريب؟ وها هى اليوم جاثمة لا تستطيع حراكا أو تحول.

طاف حنفى العالم من شرقه لغربه، مدرسا وباحثا ومنظرا ومناقشا، ومن المشرق العربى حتى مغربه، فدرس بأمريكا واليابان وألمانيا وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، واستطاع طوال هذا الرحلة الطويلة فى البحث والتأمل أن يضع خلاصاته الفلسفية العميقة لكل القضايا والمشكلات التى تواجه سكان المنطقة العربية، مشكلاته مع ماضيه وحاضره ومستقبله فى محاولة جريئة وشجاعة لقى فى سبيلها الكثير من الازدراء والتهميش والتجاهل وأحيانا التكفير.

وانصب جل اهتمام الدكتور حسن حنفى على قضية (التراث والتجديد) وينقسم مشروعه الأكبر إلى ثلاثة مستويات: يخاطب الأول منها المتخصصين، وقد حرص ألا يغادر أروقة الجامعات والمعاهد العلمية، والثانى للفلاسفة والمثقفين، بغرض نشر الوعى الفلسفى وبيان أثر المشروعِ فى الثقافة، والأخير للعامة بغرض تحويل المشروعِ إلى ثقافة شعبية سياسية، ولقد مضى حنفى فى حياته كلها غير آبه بشىء سوى إيمانه المطلق بالمعرفة وسيلة للتغيير والنهوض، فانطلق مكبا على التراث، طارحا مشروعا فكريا فلسفيا متكاملا منطلقا من عنوان (التراث والتجديد) لإعادة صياغة ملاحظاته وتأملاته واستخلاصاته الفلسفية، فبدأ مشروعه الذى يتبلور بفكرة إعادة بناء التراث الإسلامى القديم وإمكانية الاستفادة من الفكر الغربى فيما يغيب عنا، وكيف يمكن توظيف كل هذا وإسقاطه على واقعنا المعاصر ليسهم كل هذا بوضع إطار علمى ناظم لحلول كل المشكلات المستعصية اليوم عربياً.

وانطلاقا من هذا المنحى دشن حنفى مشروعه الفكرى والفلسفى عام 1988 بـ(من العقيدة إلى الثورة) فى خمسة أجزاء، و(من العقل إلى الإبداع) ما بين 2000-2002 بتسعة أجزاء، و(من النص إلى الواقع) فى جزأين 2004، و(من الفناء إلى البقاء) فى جزء 2008، و(من النقل إلى العقل) فى ثلاثة أجزاء 2010، وهو هنا يؤسس من جديد لإعادة الاعتبار للتراث بقراءة جديدة تناسب لحظة النهوض والانطلاق، كما رأى، ولهذا كانت كل هذه المداخل تدور حول إعادة الاعتبار لعلم الكلام وتجديده من خلال مدخله من العقيدة إلى الثورة، ثم علم أصول الفقه من النص إلى الواقع ثم علم التصوف من الفناء إلى البقاء ثم علم الفلسفة الإسلامية من النقل إلى الإبداع، وكل هذا اشتغال فى إطار المنظومة التراثية للفكر والتراث الإسلاميين ومحاولة الاشتغال عليه باعتباره وقودا للانطلاق لا مادة للكسل والتخلف.

ولعل التجاهل والتهميش كان جزاء ظالما له بسبب إصراره على مواقفه الفكرية والفلسفية، فقد دفع حنفى ثمن موقفه السياسى الثورى والتنويرى الرافض لكل العمليات التجميلية فى بنية الأنظمة السياسية الحاكمة، وظل وفيا لمنهجه الثورى فى التغيير، ما جعله يبدو غريبا وحيدا بهذا السياق، فقرر مرات عديدة أن يغترب بعيدا فى جامعات العالم ومراكز أبحاثها عاكفا على مشروعه الفكرى الذى لم ينل حظه من الدرس والبحث والنقاش حتى هذه اللحظة.

لقد ظل التنوير الفكرى والثقافى لدى حنفى هو السبيل الوحيد لانتشال هذه الأمة من كبوتها، وخاض فى هذا السياق معاركه ومطارحاته غير آبه بأحد سوى ما يؤمن به، وتجلى ذلك بحوار المشرق والمغرب، فقال إنه الحوار الذى تجاوز مسلمات الصواب والخطأ إلى نسبية الأفكار والتصورات، وإن ما قد تعتبره صوابا قد لا يكون كذلك لدى غيرك، ولهذا لم يكن حنفى ذا منزع راديكالى بأطروحاته رغم ثوريته التنويرية، لكنه فى المقابل لقى الكثير من التهديد والتكفير والتفسيق والازدراء، لكنه مضى فى مساره المعرفى واستوى لديه فيه المدح والقدح، فى تجل واضح لفنائه فى ذات المعرفة وتوحده بها.

فى ليلة شتوية فى بداية عام 2000 ذهبت إليه فى صحبة الزميل الشاعر والكاتب الصحفى (مهدى مصطفى) لإجراء حوار لمجلة (الأهرام العربى) فى بيته الذى كان يبدو صومعة عامرة بالكتب فى مختلف العلوم والآداب، فلاحظت هذا العالم الزاهد يرقد فى هدوء يسبق عاصفة قوية فى شراسة حجته ويقينه الثابت فيما يفكر فيه عبر إجابات تتسم بالحكمة وجبروت القبض على جمر الحقيقة المرة فى عالمنا العربى والإسلامي، خاصة حين سألناه: إنك ذكرت غير مرة بأن العرب مسكونون فى حضارة النص، وأن عليهم الانتقال من هذه المنطقة، وشد الرحال نحو الفعل. فما السبيل فى نظرك إلى تحقيق هذه الغاية؟

رد حنفى قائلا: من الأفكار الشائعة عندنا وعند الآخرين، أن الحضارة العربية بدأت بنص وانتهت بنص، ولا يعنى ذلك النص القرآنى؛ فقد كان الشعر العربى نصا، وكذلك الأمثال العربية، ثم أصبح التراث يقوم بالدور نفسه، حتى أصبح العقل العربى لا يستطيع التعامل مع الواقع إلا من خلال نص يؤوله، وإذا تحدثنا عن الحداثة التجأنا إلى (دريدا أو فوكو)، فكيف أستطيع أن أخرج من النص وأواجه الطبيعة، وأنتج نصا جديدا من دون أن أنتظر تأويل نص آخر؟ ويحضرنى - يتابع حنفى - فى هذا السياق قول الشاعر محمود درويش: (واحتمى أبى بالنصوص فدخل اللصوص).

وحين تحدث عن واقع الثقافة العربية أسند ظهره إلى الوراء على كرسيه المتواضع أمام مكتبه المكدس بالكتب فى فوضى منظمة، قائلا إن الثقافة العربية هى ثقافة التوحيد بين الشعوب والقبائل والمذاهب مع إبقاء هامش للتعددية، لكنّ التوحيد فى تعددية القيم يقوم على قدرة الإنسان على معرفة الحسن بإرادته، وألا فرق بين عربى وآخر إلا بالتقوى، ولكننا نشاهد الآن أحوال الأمة العربية بعدما تناهشتها، مطلع القرن الماضي، أطماع الدول الاستعمارية؛ فنشأت لدينا الدول القطرية التى عملت كل واحدة منها على إنشاء الدولة المستقلة التى حاول بعضها الانخراط فى تجربة الوحدة، لكنها أخفقت كما جرى بين مصر وسوريا (1958- 1962)، وانتهى كذلك المشروع الناصرى فى أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) 1967.

ومن خلاله حديث يتسم بالذكاء الحاد أدركنا أن حنفى يعتقد أن ما نواجهه الآن هو بمثابة هجمة ضارية، لتقطيع أوصال الدولة الوطنية التى تريد الوقوف أمام أشكال الهيمنة الجديدة، وتجزئتها إلى فسيفساء عرقية وطائفية - فبحسب وجهة نظره - يرى فى المغرب صراعا بين العرب والبربر، وفى مصر بين المسلمين والأقباط، وفى العراق بين السنة والشيعة والأكراد، وفى الخليج بين نجديين وحجازيين وحضرموتيين، وفى اليمن بين زيديين وشوافع، وفى السودان بين عرب وأفارقة، كل ذلك من أجل أن تصبح إسرائيل أكبر دولة عرقية فى المنطقة، وتكتسب شرعية جديدة بدلا من شرعية (هيرتزل) فى القرن الثامن عشر التى تقوم على أسطورة (أرض الميعاد) التى لم يعد يصدقها أحد، وستحاول أميركا على مدى العقدين القادمين - هكذا بدت لنا نبوءته التى تحققت فيما بعد - إجهاض محاولة أية دولة وطنية للاستقلال، مثل ماليزيا أو إيران أو تركيا، حتى لا تكون قطبا ثانيا فى مواجهة القطب الأول، وحتى لا ينشأ تجمع عربى إسلامي، وهى ستقترب من الصين لتحاصرها من جنوبها، ليستمر العالم ذو القطب الواحد مسيطرا.

وبسؤاله عن أن أى تحول فى أى مجتمع يحتاج إلى روافع من بينها الحرية والعدالة والديمقراطية، ولعل الأخيرة أن تكون فى العالم العربى حلما يوتوبيا فى غمرة طغيان الاستبداد، فهل المطلوب تفكيك بنية الوعى أم بنية التفكير أم كليهما؟

أشار بيده نحو ركن من مكتبته يحتوى بعضا من المراجع الإنجليزية والفرنسية والألمانية فيما يشير إلى شىء ما يدور فى رأسه وحده، قائلا: لقد حاولنا أن ندافع عن حرية الفرد وديمقراطية الحكم، ولكننا لم نفكر سلبا؛ أى نزع جذور التسلط والاستبداد من الموروث الثقافى والوعى الفكري، فبنينا من دون أن نهدم، وأقمنا صروحا من دون أن نؤسس، فانهار الصرح الليبرالى الذى بنته مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، ولما انهار المشروع البديل فى النصف الثاني، عادت المحافظة التاريخية من أقبية الماضي، وعادت جذور التسلط المقيمة فى الإمامة فى قريش، وهو ما جعل دور العقل تبرير المعطيات سلفا، كما استمر التصور الهرمى للعالم وترتيبه بين قمة وقاعدة، وكذلك التصور الرأسى للعالم الذى يجعل العلاقة بين طرفيه علاقة بين أعلى وأدنى، وليس بين أمام وخلف كما فى التصور الأفقي.

وعلى الرغم من كل ما مضى من أفكار وآراء، فإن حنفى كان يعتقد - قبل عقدين من الآن - أننا على أعتاب نهضة عربية ثانية تضع العربة أمام الحصان، وتبدأ من حرية الفرد وديمقراطية الحكم، وتنزع بذور القهر من الثقافة الموروثة، حتى نبنى مجتمعات ليبرالية أو اشتراكية أو أى شيء آخر، لا يهم البناء بقدر ما يهم التأسيس.

وأخيرا قال لنا (حنفي) والتفاؤل باد على وجهه المتجهم غالبا: حاولت فى مسعاى هذا أن أجمع بين شرعيتين: شرعية الماضى وشرعية الحاضر، شرعية التراث، وشرعية الثورة، فلم أجد اسما أفضل من (اليسار الإسلامي)، تكلم الأفغانى عن (العروة الوثقى) ورشيد رضا عن (المنار) وآخرون عن (المجاهد)، لكننى كنت أريد تعبيرا يعطى الشرعيتين حقهما؛ لأننى جزء من الحركة الوطنية التقدمية العربية أناضل ضد الاستعمار والتخلف والفقر والظلم الاجتماعى والتجزئة والاعتماد على الآخرين ولا مبالاة الناس، ولكن من خلال ثقافة موروثة حتى أحقق التغيير من خلال التواصل، وبالتالى أستطيع أن أدافع عن الأرض، لأن الله إله السموات والأرض، وأن أدافع عن الحرية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، وأدافع عن العدالة الاجتماعية (والذين فى أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم)، وأدافع عن الوحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون).

وأضاف حنفي: كذلك الدفاع عن الهوية (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، والدفاع عن التنمية المستقلة بإعمار الأرض (إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليفعل)، وأدافع عن حشد الجماهير وتجنيدهم (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، ووفقا لذلك فإننى أستطيع أن أحقق المشروع القومى العربى فى الثورة والنهوض عن طريق متصل بالتراث العربى الإسلامى بعد بيانه وجلائه، حتى لا أوقع الأمة فى استقطاب بين سلفيين وعلمانيين، ومجددين ومحافظين.. هكذا كان يفكر ويحذر من مغبة طغيان أفكار التيار الإسلامى المتطرف الذى يسود عالمنا العربى الآن.

رحمه الله الكتور حسن حنفى - بقدر ما اجتهد وبحث وناقش وفكر ووضع أسسا فلسفية عميقة فى شتى شئون الدين، لجعل الحياة العربية أكثر أمنا وأمان بعيدا عن الغلو والتطرف باسم الدين فى أمور الدنيا التى خلقها الله على الفطرة.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة