محمد حبوشه

أيقونة الفن والشعر السودانى عبد الكريم الكابلى

الجمعة، 10 ديسمبر 2021 10:38 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

رحل عن عالمنا قبل أيام أيقونة الفن والشعر، الموسيقار السوداني عبد الكريم الكابلي، بعد معاناة طويلة مع المرض في ولاية (ميشيجان) بالولايات المتحدة، حيث كان يقيم مع عائلته، ولا بد أن تشعر بشيء من الخجل عندما تكتشف أنك تجهل وجود فنان سوداني عربي بقامة عبد الكريم الكابلي، وترتبك أكثر عندما تعرف أن صندوق الأمم المتحدة للسكان اختاره سفيرا فخريا للنوايا الحسنة، لأنه من المطالبين بحقوق المرأة منذ حصول بلاده على استقلالها في عام 1956، أن لا تعرفه فهذا تقصير منك لأن الكابلي (زول سمح) أي رجل أخلاقه سمحة، كما يؤكد أي سوداني تلتقيه، وهو فنان المثقفين وشاعر يروض المقفى من الأبيات، وموسيقي عريق عزفا وتلحينا، ولد بهذه المواصفات الفنية وتدرج في مراتبها تلقائيا.

وهو القائل: (أن الفن لم يكن موجودا في بيئته الطفولية، ونشأته من جذور لعائلة أبيه تعود الى مدينة كابل الأفغانية، ومن جذور تعود الى جبل مروي في دارفور لعائلة أمه، الحضور الفني الوحيد استقاه من صوت الفونوغراف، يتصاعد من المقى تحت الدار أو السراي) كما يطيب له أن يلقبها، في مدينة (مساكن)، التي يعود تاريخها الى نحو عشرة آلاف عام، ويحمل إليه أصوات رواد بلاده وأنغامهم، ومنهم (سيد خليفة وحسن عطية وأحمد المصطفى وإبراهيم الكاشف وعثمان حسين والتاج مصطفى) وغيرهم، إضافة الى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وقد اكتشف مواهبه في فترة الدراسة، فأدرك أنه محب للشعر بفضل ما تضمنته مادة اللغة العربية في المنهج التعليمي القديم - آنذاك سلبت المعلقات وجدانه - وفي المرحلة المتوسطة اكتشف أن أذنه موسيقية فدخلت الأنغام على الخط من خلال آلة الصفارة، وهي مزمار صغير، بعد ذلك استقطبه العود فتلمذ نفسه بنفسه ليتعلم العزف متأثرا بمن سبقه من الكبار، لا سيما الراحل فريد الأطرش، وبالطبع حظي بفقرة ثابتة في احتفالات المدرسة على مدار سنوات تحصيله.

لكن هذه المواهب لم تحرف مسيرة الكابلي المهنية، فدرس التجارة، ثم توظف في وزارة العدل كاتبا قضائيا حتى بلغ سن التقاعد، ليتابع على خط موازٍ غرامه الأدبي على طريقته بين الأهل والأصحاب في محيط ضيق، وعلى طريقته اكتشف أيضا اهتمامه بالتراث الشعبي السوداني، فبدأ دراسته وتعمق فيها، وسرعان ما أصبح يحاضر عن شؤونه وشجونه من على المنابر الأكاديمية العالمية، أما عن دخوله العلني الى عالم الغناء فحدث ولا حرج، ذلك انه في عام 1960 وبعد مؤتمر (باندونج)، حضر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الى السودان، وأثناء ترتيب مراسم الاحتفال بهذه المناسبة التاريخية، اقترح عليه بعض المسؤولين في وزارة الإعلام أن يغني قصيدة من شعر الدكتور تاج السر حسن تحمل عنوان (آسيا وأفريقيا)، وتتناول حركة عدم الانحياز وتفاؤل دول العالم الثالث بظهورها، رفض في بادئ الأمر مكتفيا بتلحينها، لكن وبإصرار المسؤولين ثقتهم أن لا أحد غيره يتميز بقدرة على النطق السليم ولمعرفتهم أنه مسكون بعبد الناصر، وبالتالي لن يجد مناسبة أسمى من هذه ليطل للمرة الأولى على الجماهير.

اقتنع عبد الكريم الكابلي ووقف في حضرة عبد الناصر وكبار الضيوف، فتح فمه لينشد البيت الأول من القصيدة، لم يخرج أي صوت من حنجرته، استجمع إرادته، محذرا نفسه من الفشل وأعاد الكرة، وانطلق بالغناء منشدا:

عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمةْ

ويطل الفجرُ في قلبي على أجنحِ غيمةْ

سأغني آخر المقطع للأرض الحميمةْ

للظلال الزُرق في غابات كينيا والملايو

لرفاقي في البلاد الآسيويةْ

للملايو .. ولباندوق الفتيةْ

والتي أعزفُ في قلبي لها ألف قصيدةْ

يا صحابي صانعي المجد لشعبي

يا شموعاً ضؤها الأخضر قلبي

يا صحابي فأنا ما زرت يوماً أندويسيا

أرض سوكارنو .. ولا شاهدتُ روسيا

غير أني والسنا في أرض أفريقيا الجديدةْ

والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدةْ

قد رأيت الناس في الملايو

مثلما شاهدت جومو

ولقد شاهدت جومو

مثلما إمتد كضوء الفجر يومُ

مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ

يا رياضاً عذبة النبع وريقة .. يا حقيقة ..

مصر يا أم جمال .. أم صابرْ

ملء روحي أنت يا أخت بلادي

سوف نجتث من الوادي الأعادي

فلقد مدّت لنا الأيدي الصديقة

وجه غاندي وصدى الهند العميقةْ

صوت طاغور المغني

بجناحين من الشعر على روضةِ فنِّ

يا دمشق .. كلنا في الفجر والآمال شرق

أنتِ يا غابات كينيا يا أزاهرْ

يا نجوماً سمقت مثل المنائرْ

يا جزائرْ..

ها هنا يختلط القوس الموشّى

من كلِّ دارٍ كل ممشى

نتلاقى كالرياح الآسويةْ

للملايو ولبنادونق الفتية.

المحطة الثانية في حياة الكابلي، هى غناؤه في حضرة الراحلة الكبيرة السيدة أم كلثوم، التي زارت السودان لإحياء حفلتين موسيقيتين في إطار جولة لدعم المجهود الحربي المصري بعد نكسة 1967، آنذاك رفض الكابلي حضور أي من الحفلتين وقال لأصدقائه (لن أستمع إلى أم كلثوم قبل أن تستمع هي إلى)، وهكذا كان، فقد اختار آنذاك قصيدة أبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) بعد أن لحنها وفقا للسلم الخماسي المعتمد في الألحان السودانية.. أدى القصيدة التي سبق لأم كلثوم أن برعت في غنائها، وعندما انتهى هم بالانصراف كعادته ليفاجأ بسيدة الغناء العربي تبحث عنه لتصافحه وتشجعه وتبدي إعجابها بأدائه، لكنه تعرض للنقد من جانب بعض أقرانه السودانين، إذ اعتبر البعض أنه يبحث عن التحدي والمنافسة، ولكنه لم يتوقف كثيرا عند هذا الأمر، وبعد فترة لحن قصيدتي عبد الوهاب (الجندول، كليوباترا) على طريقته.

لم يأسر الكابلي نفسه بالقصائد العصماء، وإن كان من رواد من غنوا لأبي الطيب المتنبي والبحتري وعباس محمود العقاد، فراح الى الغناء الشعبي، وحقق نجاحا فنيا قل نظيره، ليستولي على مشاعر السودانيين بأغنيات ما زالوا يرددونها منذ حوالي نصف قرن ويصعب على من يسمعها، مهما كانت جنسيته، عربية أو أعجمية، أن يمنع نفسه من الرقص رافعا يده الى الأعلى ملوحا بسلام سوداني خالص مثل (سكر.. سكر) و(أمير) و(يا جار) وغيرها الكثير الكثير، و لعل السر في هذا الفنان أنه لا يبحث عن الجماهيرية والمنافسة، ولم يسع إلى احتلال مكانة بارزة تحت الأضواء، كان وما يزال يحب الشعر، يكتبه بمعزل عن الغناء، كما يكتب المقالات بقلم أهيف يليق به كأديب وموسوعي ومترجم من طراز رفيع، وظل طوال حياته التي تمتد لأكثر من 60 عاما مدمنا التلحين والغناء بتلقائية بكر.

لم يعتمد (الكابلي) مقولة (الجمهور عاوز كده)، لأنه لا يتعاطى في الأصل مع مفهوم (الجمهور)، وإنما مع مفهوم (المتلقي) .. يحترم هذا (المتلقي) ويحمل همومه.. يغني منتقدا إرغام الفتاة على الزواج بغير إرادتها أو إشعال الفتن والحروب وقتل الأطفال .. فقط تلبية لمطامع السلطة والنفوذ، تماما كما يحاضر عن الفن الشعبي التراثي وعن كرامة الإنسان أينما كان، ويحرص دوما على تضمين أغنياته جوانب الحياة التي تتصل بالسودان في خصوصيتها وبالمبادئ الإنسانية في عموميتها، يقول: (لا أنتمي الى أي حزب ولا أحب السياسة، لدي حس قومي، وأغني للمبادئ وأنتقد السلطة، ولا يفهم الفن بعيدا عن الالتزام، معتبرا أن الحالة الراهنة للغناء تعكس انعدام الالتزام في حياة الفرد العربي، انطلاقا من أن الفن تعبير صادق للحياة، وعندما يتدنى مستوى الأمم ينحدر مستوى الفن لدى شعوبها، التي صارت تسمع بأقدامها وليس بآذانها.

لم يحاول الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي أن يخرج من الموسيقى السودانية، أراد طوعا وبإصرار البقاء في دائرتها وتطويرها من دون أن يفقدها غناها وخصوصيتها، لماذا؟ يجيب على ذلك بنفسه قائلا: الأمر مرتبط بصدق الإحساس، هذا ما أحسه، ولا أريد أن أطلع من الإطار الأساسي الخماسي، مع التأكيد أن الإنسان لا يستطيع أن يسد أذنيه لثقافات العالم الموسيقية، لذا يأتي التجديد ضمن هذا الإطار، وقد سعيت في ألحاني إلى تلطيف السلم الخماسي بعدما خبزت الموسيقى في فرن روحي، وهذه العبارات ليست مفتعلة في قاموس الشاعر الفنان .. هكذا هو، أصغر الأشياء وأتفهها قد تنقلب لديه الى رؤية فلسفية بليغة، كما حصل عندما شاهد تفاحة مرمية على أرض الغرفة في منزله، التفاحة صارت قصيدة مؤلفة من 106 أبيات، عنوانها (أصل الداء) ومضمونها ينطلق من الخطيئة الأزلية والغيرة والجريمة وعلاقة الرجل والمرأة بإشكالياتها الفلسفية والإنسانية.

مرة ثانية: لماذا؟ يجيب: (لأن عقلي يرهقني) وأعجبني قوله: قدرة الفن على نفخ الحياة في اللغة بالإبداع الشعري والغنائي، هي التي جعلت الإيطاليين يعمدون الشاعر الإيطالي العظيم في العصور الوسطى (دانتي ألييجيري)، صاحب (الكوميديا الإلهية) أباً للغة إيطاليا الحديثة، جاعلين من لغة مدينته فلورنسا أمّاً وأصلاً للغتهم اليوم، وذلك اعترافاً وتكريماً للمجازات الشعرية العظيمة التي صنعها خيال دانتي في تلك اللغة، فكتب لها الخلود)، ويضيف: وإذا كان الشعراء: أمراء الكلام، كما قال الأصمعي، فإن المغنين هم صانعو خيال المرهف في الألحان الموسيقية (ملهمة الروح) لشعر الشعراء، ومجازاتهم العظيمة.

رحل (الكابلي) في الولايات المتحدة الأميركية ليغدو أحد آباء وصانعي الوجدان الحديث للأغنية السودانية، الموسيقار، الكبير عبد الكريم الكابلي، ابن شرق السودان ومدينة (بورتسودان) التي وُلد فيها عام 1932، إذ نشأ الفنان عبد الكريم الكابلي في بيت علم وأدب، فقد كان والده عبد العزيز الكابلي يترجم بعض مسرحيات شكسبير في عشرينيات القرن الماضي، ليتم أداؤها عبر التمثيل المسرحي في مدارس مدينة (بورتسودان) التي كانت مدينة واعدة بالحداثة والمعرفة .. رحل الكابلي بعدما عاش حياته جملة إيقاع شجي ولحن مديد عطر وجدان السودانيين لأكثر من نصف قرن بأغنيات لن يهزمها الدهر أبداً وإبداع باقٍ على مر الأيام .. قدراته العظيمة على إخراج اللحون من أعماق وعيه الباطن بحساسية مترفة في إبداع الأنغام جعلت منه مطرباً شاملاً وباحثاً في التراث وشاعراً كذلك، لكن مجده العظيم الذي أُعطي له كان في تلك الألحان التي عاش بها مطرباً عظيماً وخاض بها تجريباً معززاً بالنجاحات في أطوار حياته المديدة.

وعلى مدى 60 عاماً، صاغ (الكابلي) وجداناً فنياً بديعاً لمزاج عام مترف في الطبقة الوسطى السودانية وسكان المدن، لكن في الوقت ذاته، منح الآخرين قدرةً على الارتقاء مع فنه من مداخل غنائية لعيون التراث الشعبي في السودان، وخاض في فضاء عريض من الألحان العظيمة والأعمال الخالدة عبر أغنيات أصبحت اليوم من عيون الغناء السوداني الحديث، أغنيات كـ (طائر الهوى، ضنين الوعد، في عز الليل، جمال تاجوج) والأخيرة استلهمها من تراث البجا بشرق السودان، ليجسد في أغنياته خيالاً جسوراً ذا تطريب عالٍ وقوة إيقاعية مفتونة بألحان مترفة جيدة السبك، عميقة المعاني، ومجيدة في ثراء مفرداتها وصفائها الشعري، عبر صوته الذي ظل صافيا منغما وفخيماً يندر أن يجود الزمان بمثله.. رحم الله عبد الكريم الكابلي بقدر ما قدم في كتاب حياته بصفحاته التسعين، مختومة بصوته الرخيم في تحولاته العديدة، وهو يردد: (صلّ ياربي على المدثرِ.. وتجاوز عن ذنوبي وأغفر) .. غفر الله له بقدر عطائه الفني الكبير.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة