التفكير فى شراء مقبرة قرار صعب، يخضع لاعتبارات عديدة، لا ترتبط فقط بوفرة الموارد المالية اللازمة، وحُسن التجهيز والإعداد، بل بعاطفة المصريين وهواجسهم نحو الخوف من الموت، والربط الدائم بين فكرة شراء "جبانة" والتشاؤم من حقيقة الفناء، لدرجة أن البعض قد لا يفكر على الإطلاق فى خيار البناء أو الشراء إلا إذا أزفت الآزفة.
الحديث عن الموت فى مصر لا يجد استحساناً أو قبولاً، خاصة فى الوقت الراهن، على عكس الثقافة الجنائزية القديمة التى كانت سائدة، فأكثر ما اهتم به المصريون القدماء كان المقابر، والمعابد الجنائزية، التى كانت تُشيد بجوار المقابر الملكية، اعتقاداً أن الفرعون سوف يتعبد فيها بعد موته، إلا أن الوضع الآن بات مختلفاً، فالكثير لا يفكرون فى مكان الموت، ولا يخططون لشراء مقبرة، فأولوياتهم مختلفة وخطتهم أعقد، ارتباطاً بفكرة الحى أبقى من الميت.
فى الحقيقة هناك ظاهرة أبعد وأغرب من كل ما سبق، فكما أن زيارة القبور لها خصوصية، وتلقى اهتماماً دائماً من جانب العائلات التى تفقد أحباءها، وتستقبل هذه المقابر العديد من الزيارات اليومية، وما إن تتم هذه الزيارات سرعان ما تجد "المباغتة" والمفاجأة التى يجهزها "حارس المقابر" أو "الُتربى" بمجرد الوصول إلى المدفن، فعقب الدخول والاستعداد لقراءة الفاتحة، ستجد سريعاً من يؤنسون وحشتك، ويجتمعون حولك من كل حدب وصوب، وكأن هناك من يجمعهم عبر جروب "واتس آب"، أو يهاتفهم عبر الموبايل بأن زبوناً حضر.. ثم تنتقل بعد ذلك إلى الفقرة التمثيلية، فستجد شخصاً يرفع أكف الضراعة ويدعو بحرارة مصطنعة، وآخر يقدم وعظاً محفوظاً ومعتاداً، ثم فى نهاية الأمر سيطلب منك هؤلاء جميعاً البركة والرحمة والنور على روح الفقيد..
أعرف بعض الأصدقاء تخلوا عن زيارة المقابر بسبب "غلاسة التُربى"، الذى يخترق حالة الحزن والنوستالجيا التى نستحضرها عند زيارة من فارقونا، وحالة الصفاء والمناجاة والدعاء القلبى واللقاء الروحى الذى نشتاق إليه جميعاً عند زيارة الموتى، إلا أن كل هذا سرعان ما يتحول إلى جدل مع مجموعة من المتسولين، قلوبهم ماتت فى المقابر قبل أجسادهم، وسيجعلونك تفكر ألف مرة قبل الزيارة.
ظاهرة " التُربى" المقيم موجودة فى القاهرة الكبرى، وما ارتبط بها من "سكان المقابر"، ولا تعرفها المحافظات، سواء فى الصعيد أو الوجه البحرى، أو المناطق الساحلية والحدودية، فالزيارة هناك آمنة، ولن تجد من يتسول حولك أو يقدم لك التعازى المزيفة أو الأدعية الطامعة فى جنيهات "محفظتك"، بل ستأنس بمن يقرأ بجوارك الفاتحة أو يدعو بالرحمة والمغفرة لمن تزور.
لقد راودتنى نفسى لشراء مقبرة فى القاهرة أو الجيزة، حيث أعيش وأسرتى الصغيرة، بينما الأهل والعائلة في بنى سويف، إلا أن ما رأيت من مشاهد، وما حكاه بعض الأصدقاء، وكيف هجروا زيارة من يحبون نتيجة مضايقات سكان وحراس المقابر، قررت العدول عن هذه الفكرة، على الأقل فى الوقت الراهن، وأخترت أن تكون "دار العودة" فى بلدتى الصغيرة، فالرحمات هناك مجانية ومن القلب، والصدقة عن طيب خاطر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة