عندما تولى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض، قبل 4 سنوات، وضع على عاتقه تقويض إرث سلفه باراك أوباما، بل وتجاوزه في الكثير من الأحيان، عبر قرارات تنفيذية، تمثلت في الانسحاب من عدة اتفاقات، بل ومنظمات تعد عضوية الولايات المتحدة بها أساسا لبقائها، من جانب، وسياسات تهدف في الأساس إلى هدم ثوابت مهمة بالسياسة الأمريكية، وعلى رأسها العلاقة التي أرستها الإدارات السابقة بين التدخل العسكرى المباشر في العديد من مناطق العالم، ونظرية "النفوذ الدولى"، للاحتفاظ بالهيمنة الأمريكية الأحادية على النظام الدولى، في انعكاس صريح لرؤيته القائمة على شعار "أمريكا أولا" التي وضعت الأولوية للداخل، على حساب المحيط الدولى والإقليمى.
ولعل "معضلة الإرث" كانت بمثابة سابقة في إدارة ترامب، باعتباره أول رئيس ثائر على التقاليد السياسية، والثوابت التي طالما تبنتها واشنطن لسنوات، إلا أنها لن تكون الأخيرة، حيث امتدت إلى حقبة خليفته جو بايدن، والذى يرى أن إرث الإدارة السابقة بمثابة "كابوس" ينبغي تجاوزه، وهو ما يحاول ترجمته عبر العديد من القرارات التنفيذية التي وقعها منذ يومه الأول بعد التنصيب، وعلى رأسها العودة إلى اتفاقية باريس المناخية، بالإضافة إلى محاولاته لاستعادة دائرة التحالفات الأمريكية التاريخية، مع دول أوروبا الغربية، وكذلك مساعيه للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
إلا أن ثمة حقيقة واضحة، ربما لا يخفيها امتعاض الإدارة الحالية تجاه سياسات ترامب، والتي تتجلى في أبهى صورها في محاولات عزله من منصب لم يعد يشغله، في سابقة خطيرة، ربما تترك تداعيات كبيرة على مستقبل الولايات المتحدة، وهى أن بايدن يواجه ما يمكننا تسميته بـ"معضلة الإرث المزدوج"، والتي لا تقتصر في نطاقها على إرث سلفه، كما كان الحال في حقبة الرئيس السابق، وإنما تمتد كذلك إلى إرث باراك أوباما، والذى كان بايدن نفسه جزءً لا يتجزأ منها باعتباره نائبا للرئيس، لـ8 سنوات كاملة، كانت مجموع ولايتى الرئيس الأسبق.
إرث أوباما في حقيقته عبئا كبيرا على إدارة بايدن، ربما أكثر من سياسات ترامب، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن قدوم الأخير إلى البيت الأبيض، رغم غياب خبرته السياسية، على حساب سياسية مخضرمة على غرار هيلارى كلينتون، كانت بمثابة تعبيرا مهما عن حالة من التمرد المجتمعى في الداخل الأمريكي على سياسات تلك الإدارة، وبالتالي كان ترامب بمثابة الملاذ، لتحقيق طموحات فئات معينة، ربما لا تضع "لعبة" السياسة في حساباتها، بل تهتم بالأكثر بما يتعلق بقضايا المواطن العادى، وظروفه المعيشية والحياتية، مما ساهم في إضافة الكثير من الزخم لترامب وإدارته، دفعت نحو انقسام كبير، بعد الإعلان عن خروجه في انتخابات نوفمبر الماضى.
العبء الذى يفرضه أوباما وإرثه على إدارة بايدن، لا يقتصر على الشارع الأمريكي بصورته الكلية، وإنما يتجسد، بصورة أكثر وضوحا، في الصراع داخل أروقة الحزب الديمقراطى، بين تيار بيرنى ساندرز، والذى يقدم نفسه باعتباره الذراع "المجدد"، والذى يمثل كتلة كبيرة، من جانب، والتيار التقليدي الذى تقوده نانسى بيلوسى، وغيرها ممن يطلق عليهم قيادات "الحرس القديم" داخل الحزب.
وهنا يمكننا القول بأن "معضلة" بايدن، مع إرث الأسلاف، يبدو مزدوجا، فهو لا يستطيع تقويض إرث ترامب بالكامل، بعدما نجح في استقطاب كتلة كبيرة في الشارع، كما أنه لا يمكنه العودة إلى الوراء، عبر إحياء إرث أوباما، في ظل انقسامات كبيرة، تمتد إلى داخل الحزب الذى تمثله الإدارة الحالية، في انعكاس صريح للتحدى الأكبر الذى يواجهه بايدن، وبالتالي فتصبح الحاجة ملحة لطريق "وسط" بعيدا عن أي نهج استعلائى، أو ضغائن شخصية يحملها الديمقراطيين تجاه الرئيس السابق، خاصة وان الاستمرار في استهدافه يساهم في زيادة شعبيته، وبالتالي اتساع فجوة الخلاف بين الأمريكيين، وهو ما لا يصب في صالح الإدارة الجديدة.