نواصل إلقاء الضوء على أفكار المفكر الكبير زكى نجيب محمود (1905- 1993)، ونتوقف اليوم مع كتاب "قشور ولباب" الذى صدر سنة 1957، يقول زكى نجيب محمود فى مقدمة كتابه، فى هذا الكتاب مجموعتان من المقالات والأبحاث، إحداهما فى النقد الأدبى، والأخرى فى الفلسفة، وكلٌّ منهما يعرض مذهبى فى موضوعه باختصارٍ ودقة.
أمَّا مجمل مذهبى فى الأدب فهو أن الكاتب — مهما تكن الصورة التى اختارها لأدبه، شِعرًا أو قصةً أو مسرحيةً أو مقالة — لا يُنتِج أدبًا بمعناه الصحيح إلا إذا عبَّر عن ذات نفسه أولًا، وإلا إذا جاء هذا التعبير — ثانيًا — بحيث تتكامل أجزاؤه فى بناءٍ يكون بمثابة الكائن الفرد، الذى لا يشاركه فى فرديته هذه كائنٌ آخر من كائنات الوجود؛ فهذا التفرُّد هو من أخصِّ خصائص الكائنات الحية، وكذلك ينبغى أن يكون من أخصِّ خصائصِ الأثَر الأدبي، لو أردنا حقًّا أن يجيء الأدب صورةً من الحياة، ولم نقُل هذه العبارة عبثًا ولهوًا.
ليس فى عالم الأحياء — بل ولا فى عالم الأشياء كلها — ما هو مُجرَّد وعام؛ إذ كل ما هُنالِكَ أفراد، لكل فردٍ منها ما يُميِّزه من سائرها؛ لكل فرد ما يُميِّزه من بقيةِ أفرادِ نوعِه ودعْ عنكَ أفراد الأنواع الأخرى؛ وإنا لنحصل حاصلًا إذا قلنا — مثلًا — إن كل فردٍ من أفراد الناس يَتميَّز ممن عداه، ولولا هذا التميُّز لما صَح أن يكون نفسًا قائمة بذاتها مسئولةً عن فكرها وسلوكها؛ ليس هنالِك «إنسان» بصفةٍ عامةٍ مُطلَقة مُجرَّدة، بل هنالكَ محمد وزينب، وما اللفظ العام «إنسان» إلا رمزًا تَواضَعنا على أن نُلخِّص به الآحاد الكثيرة ليسُهل التفاهُم، على ألا يغيب عنا أن حقائقَ الأحياءِ الجزئية المُفرَدة لا شأنَ لها بمثل هذا التلخيص والتيسير فى لغة التفاهُم السريع.
بل الفرد الواحد من أفراد الناس حياتُه سلسلةٌ من حالاتٍ وجدانية، ولكل حلقةٍ من هذه السلسلة ما يُميِّزها من بقية الحلقات؛ فليس ما أَشعُر به الآن من ضيقٍ نفسى هو نفسه الضيق النفسى الذى شَعَرتُ به أمسِ القريب أو أمسِ البعيد. إن حالتى النفسية الآن — مهما يكن مضمونها وفحواها — متفردةٌ بخصائصَ أستطيع إدراكَها لو وهَبنى الله موهبةَ الأديب الحق الذى يستطيعُ إدراك الخصائص التى تُفرِد الحالات والمواقف والأشخاص، وإذن فليس ما هنالك هو «ضيقٌ نفسى عام» أُحسُّه أنا ويُحسُّه كل من ضاقت نفسُه من أفراد البشر، بل الأمر فى حقيقته حالاتٌ خاصة جزئية فريدة مُتميِّز بعضها من بعض، على الرغم مما بينها من تشابُه يُجيز لنا أن نَجمعَ كل حُزمةٍ من المتشابهات فى مجموعةٍ واحدة ونُطلِق عليها اسمًا واحدًا.
ولو وقف الرائى عند أوجه الشبه التى تجمع الأفراد فى مجموعة واحدة، كان أقرب إلى العالم وأبعد عن الأديب؛ لأنه لو أراد له الله أن يكون أديبًا بحق لاستوقفه من الأفراد — مهما يكن نوعها — ما يُميِّزها ويُخصِّصها، لا ما يطويها مع غيرها فى مجموعةٍ عامة الخصائص مُجرَّدة الصفات.
فالشاعر يكون شاعرًا حين يلتفت إلى إحدى خبراته الوجدانية الذاتية، ثم يُخرِج هذه الخبرة الواحدة فى بناءٍ من اللفظ تتعاون أجزاؤه على إثارة مثل هذه الخبرة الوجدانية نفسها عند القارئ؛ فلو كنتُ شاعرًا ونظرتُ إلى حالتى الوجدانية الراهنة — مثلًا — وهى حالةٌ من الضيق، لها عناصرها وخصائصها، لكن هذه العناصر والخصائص بالطبع تجتمع معًا فى نفسى لتتكون منها «خبرة واحدة»، ثم أردتُ إخراج هذه الحالة الداخلية ألفاظًا تُرَص على الورق، وَجَبَ ألا تجيء هذه الألفاظ فُرادى، بل وَجَبَ ألا تجيء العبارات المؤلَّفة من هذه الألفاظ عباراتٍ فُرادى، لا شأن للواحدة منها بالأخرى، بل ينبغى أن تتعاون على بناء كائنٍ واحد، يُصوِّر الكائن الواحد الذى هو خبرتى الوجدانية؛ وإذن فمقياسنا فى تقدير القصيدة من الشعر هو الإشارة إلى الخبرة الوجدانية الداخلية أولًا، وثانيًا إلى ما بين أجزاء القصيدة من ترابُط يجعل منها بناءً واحدًا فريدًا.
وقُل شيئًا كهذا فى سائر الصور الأدبية؛ فعلامة القصة الجيدة أو المسرحية الجيدة هى تكامل الشخوص المُصوَّرة تكامُلًا يجعل منها أفرادًا كهؤلاء الأفراد الأحياء الذين نراهم ونتحدث إليهم ويكون بيننا وبينهم حُب أو كراهية، وعلامة المقالة الأدبية الجيدة أن تُصوِّر حالةً وجدانية مَرَّت بنفس الأديب بكل ما لها من خصائصَ تجعل منها حالةً فريدة معدومة الأشباه، إذا أُريد بالشبه كمال التماثُل والتطابُق.
أما إذا صاغ لنا الشاعر طائفةً من القواعد العامة فى سلوك البشر، وهو ما يُسمُّونه "بالحكمة" حين يقولون عن شاعر إنه حكيم فى شعره؛ وأما إذا استهدَف القصصى أو الكاتب المسرحى أو كاتب المقالة مذهبًا فكريًّا أو حقيقةً عقلية يُريد أن ينشُرها فى الناس لأنه يعتقد فى صوابها، فذلك — فى رأيى — قد يكون كلامًا مفيدًا نافعًا له قيمته الكبرى فى الرقى بالإنسان إلى ما شاء له الكاتب أن يرقى، لكنه لا يكون أدبًا بالمعنى الخاص للأدب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة