رغم أن معركة «فيس بوك» مع الحكومة والناشرين فى أستراليا، تبدو بعيدة عنا، إلا أن نتائجها تمثل تحولًا ومؤشرات لمستقبل الإعلام والنشر فى العالم، ولسنا بعيدين عن هذا السياق. بدأت المعركة بمطالب من الناشرين والحكومة لمنصات التواصل الاجتماعى، خاصة «فيس بوك» و«جوجل»، بدفع مقابل للمحتوى الذى تنشره من منصات الأخبار، ورفض العملاقان فى البداية ثم استجاب «جوجل»، ووافق على التفاوض، لكن «فيس بوك» رفض وصعد إجراءاته ومنع نشر الأخبار من المؤسسات والأفراد.
الأمور تطورت وانتقلت إلى العالم، وارتفعت أصوات ترى أن «فيس بوك» تمارس احتكارًا ضارًا بالإعلام، وتحقق أرباحًا، بينما تعانى منصات إنتاج المحتوى من تراجع الإعلانات والتمويل. انتقد مشرعون فى أنحاء العالم قرار «فيس بوك» فى وقت يطل شبح مواجهة أوسع مع الحكومات والمؤسسات الإخبارية، فقد انتقد نواب وناشرون إعلاميون فى بريطانيا وكندا وألمانيا والولايات المتحدة، إجراءات «فيس بوك» ضد أستراليا، واعتبروها ضد المنافسة. ووصفها جوليان نايت، رئيس اللجنة الرقمية فى البرلمان البريطانى، بأنها واحدة من أكثر تحركات الشركات غباء، وتسبب قرار «فيس بوك» فى تحركات للمشرعين للتصدى لهذا الاحتكار، فى أوروبا وأمريكا، وعاد «فيس بوك» للتفاوض من الحكومة الأسترالية التى أعلنت الاستمرار فى الدفع بتشريع «الدفع مقابل النشر».
وانتقل الأمر من أستراليا للعالم، الاتحاد الأوروبى وأمريكا، والذى يلزم «فيس بوك» و«جوجل» بالتوصل إلى اتفاقيات تجارية مع المواقع الإخبارية أو الخضوع للتحكيم الإجبارى للموافقة على مقابل المحتوى الإخبارى، فتصرف «فيس بوك» بعنف، وأغلق كل منافذ نشر الأخبار، ومعها مواقع خدمية وحكومية وأهلية، فى تصرف عبر عن واقع جديد، تفرض من خلاله مواقع التواصل كلمتها، وترى نفسها فوق كل المنصات أو المواقع أو الصحف. فضلًا عن العنف مع الخصوم، سواء كانوا من المنافسين أو المنظمين حول العالم، وهى استراتيجية يقودها مارك زوكربيرج، ومستشاره نائب رئيس الوزراء البريطانى السابق نيك كليج.
وإذا انتقلنا من العالم إلى العالم العربى ومصر، يبدو الأمر بعيدًا عنا، لكنه فى الواقع تعبير عن تحولات وتطورات مستمرة، جعلت من مواقع التواصل صاحبة الكلمة العليا فيما ينشر أو لا ينشر، وبقدر ما تساهم فى الإعلام، بقدر ما تضر بعمل المنصات والمواقع والصحف، التى تنفق وتبذل جهدًا لإنتاج المحتوى، بينما تحصل مواقع التواصل على الإعلانات والعوائد.
وبما أننا نقترب من انتخابات نقابة الصحفيين، ومع البدء فى تناول وطرح أفكار وبرامج خدمية أو مهنية، لم يظهر أن برامج المرشحين حتى الآن مشغولة بمناقشة وطرح تأثيرات منصات التواصل على الصحافة والإعلام والمهنة، وبينما يتحدث كثيرون ويناقشون القضايا المهنية، وحجم ما أنتجته السنوات الماضية من تأثيرات على الصحف والمؤسسات الإعلامية. فقد تراجعت الصحافة الورقية بشكل كبير، مقابل صعود الصحافة الإلكترونية والديجيتال، ثم تقدمت صحافة الفيديو لتمثل جزءًا من العمل الصحفى، ووسط هذا تسود القضايا الخفيفة وتجذب المتابعين أكثر من غيرها. وتحتل الموبايلات مكان الصحف والقنوات.
واللافت للنظر أن بعض من يتحدثون عن أزمة المهنة، يتجاهلون تأثيرات «الموبايل» على صناعة ونشر الأخبار. أما شركات التكنولوجيا، فقد فرضت قواعدها، وأصبحت نافذة أساسية للنشر، لدرجة أنها تفرض نفسها بالمنع أو السماح، وهو ما ظهر فى معركة أستراليا، وتردد صداها فى العالم، بأن ما تعانيه الصحافة فيما يتعلق بالتمويل والتحديث يرجع فى جزء منه للتحولات الكبرى فى منصات التواصل الاجتماعى، وتطورات الموبايل التى أطاحت بأجيال من صناع الصحافة، وما تزال تواصل زحفها وتفرض سيطرتها وتحدد نوعية وشكل النشر.
اللافت أن هذه القضايا رغم تأثيرها على مهنة الصحافة والإعلام، لا يبدو أنها تشغل بال من يتحدثون عن أزمة تسكن أسبابها فى شاشات موبايلاتهم.