نلقى الضوء على رواية "الوسية" وهى واحدة من أجمل السير الروائية كتبها خليل حسن خليل، ليرصد فيها أحوال الناس والسُّلطة، والمُلاك والعبيد، والأرض والانتماء، والحراك الاجتماعى وعوامل التغيير، وليؤرخ فيها لمصر فى العهد الملكى اجتماعيًّا وسياسيًّا، كاشفًا مجتمع المستغلِّين الطفيليين الذى جعل البلاد "وسية" يتسلط فيها المُلاك الأجانب وأصحاب السُّلطة على الفلاحين والمُعدَمين.
تسرد لنا "الوسية" القصة الممتعة لكفاح شاب قَروى حُرم من التعليم، فعمل فى وسية الخواجة تحت وطأة الفقر، ثم تطوَّع فى الجيش وثابر وثقَّف نفسه بنفسه حتى حصل على الليسانس فى القانون، لكنَّ تفوقه لم يؤهله ليشغل وظيفة مناسبة فى سلك القضاء أو التدريس فى الجامعة؛ لأنه فلاح ابن فلاح، إلا إنه لم يستسلم، وسافر فى بعثة إلى الخارج ليُعد للدكتوراه.
وجاء فى الوسية:
عام 1933
صيف قائظ، شمس عنيفة، تصب وهجها على مبانى القرية، يكاد لظاها يشعل النار فى الحطب الذى يغطى سقوفها. أشجار السنط والنخيل والكافور، تتناثر فى أرجاء القرية ساكنة هامدة، لم تعد تداعبها تلك النسمات التى كانت تميل معها الغصون، وتصفق لها الأوراق، فتخفف ما يرين على القرية من كآبة، وما يخيم عليها من صمت، لم يعد يقطعه بين آونة وأخرى، غير نهيق حمار، أو نعيق غراب.
كنت أجلس مع والدتى وأخواتى فى فناء منزلنا الذى يغطيه التراب، وتتناثر فى جنباته أعواد من حطب القطن والذرة وقش الأرز، كان المنزل مبنيًّا من الطين، ولكنه يرتفع طابقين، ويوحى منظره بأن سكانه يكونون طبقة أخرى غير الطبقة التى تسكن الأكواخ.
كنت قد جاوزت الحادية عشرة من عمرى، وكنت أكبر أخواتى، وكان الحديث يدور حول تفوقى فى الشهادة الابتدائية، إذ كنت أول مدرسة كفر صقر، بل أول مديرية الشرقية، وقد أسعد حصولى على الابتدائية أمى وأخواتي، فأحاطونى بلون من الحنان، لا يملكون للتعبير عنه غير ومضات العيون، وخفقات القلوب.
وبينما نحن كذلك، إذا بالباب يُطرق فى عنف، ارتعدت له الفرائص الصغيرة، وهرعت نحو الباب لأفتحه، ولكن والدتى اندفعت نحوى فى هلع بالغ قائلة:
ـ لا لا، لا تفتح الباب.
ـ لماذا؟
ولم ترد والدتى على تساؤلي، ولكن وجهها الأبيض الوردى أصبح شاحبًا كوجوه الموتى، ورأيت فى عينيها الصغيرتين ذعرًا واضحًا. ثم قالت فى اضطراب:
ـ تعال معي. احمل معى الكنبة والكراسي.
وحملتها معها بذراعى النحيلتين، ثم صعدنا بها بعض السلالم فى الفناء الداخلى للمنزل، وألقينا بها فى منزل جار لنا.
اشتد الطَّرق على الباب. تصاعدت أصوات هستيرية فى الخارج. والدتى تحثنى أنا وأخواتى على نقل الأثاث بسرعة إلى المنزل المجاور. ولما طال الطَّرق العنيف، ولم نستجب له، بدأت عملية كسر الباب. واندفع إلى الداخل رجل طويل غليظ، يلبس طربوشًا صعد العرق إلى منتصفه، وبدلة إفرنجية تآكلت بسبب الاستخدام الطويل. كان يحوط به خفراء القرية وشيخ البلد.
صرخ فينا الرجل الذى دخل المنزل دخول الفاتحين:
ـ لماذا لم تفتحوا الباب؟
وأجابت والدتى بصوت متكسر لاهث:
ـ لم نسمع الطَّرق!
ـ لقد سمع الطَّرق أهل البلد جميعًا.
ثم اندفع هذا الأفندى الضخم، الرث الثياب، يقتحم حجرات المنزل ويفتشها، ثم انفجر غيظًا:
ـ أين الكنب والكراسى والمراتب والأثاث؟!
وأجابت والدتي:
ـ ليس لدينا غير الحصيرة، وهذه المخدات.
ـ الشيخ حسن أبو خليل كله ليس لديه إلا حصيرة، لا بد أنكم هرَّبتم الأثاث!
ـ إلى أين سننقله؟ ليس لدينا رجال لحمله.
كان الخوف قد سيطر على والدتى فخارت قواها، وجلست على الأرض، وانساب الخوف منها إلى وإلى أخواتي. على أننى لم أدرك سر هذا الهجوم، لم أفهم مدلول الحوار بين الأفندى الغليظ ووالدتي.
ثم كتب هذا الأفندى شيئًا فى دفتر يحمله فى محفظة أوراق جلدية كالحة، وانصرف مغيظًا محنقًا، يتبعه القوم الذين صاحبوه فى عملية السطو على منزلنا.
وقفلت الباب خلفهم، وسألت والدتي:
ـ مَن هذا الرجل؟
ـ جاء ليحجز على متاعنا، ثم يبيعه.
ـ ولِمَ يفعل ذلك؟
انهمرت دموع والدتى على خديها فى فيض دافق. صمتت فترة طويلة. رأيت فى عينيها ترددًا فى الإجابة على سؤالي. وعندما هدأت بعض الشيء، اصطحبتنى إلى المندرة (بعيدًا عن أخواتي)، وأخذت ترد على سؤالي:
ـ إن والدك مدين بديون كثيرة، والدائنون يطلبون من المحكمة أن تبعث بمُحضر للحجز على متاعنا، فإذا لم نسدد الدَّين فى فترة معينة، يباع أثاثنا فى مزاد علني، وتُعطى الحصيلة للدائنين.
ـ ولكن لماذا تراكمت الديون على والدي؟
ـ هذه قصة طويلة، وأنت لا تزال غضًّا لين العود، ولا أود أن أحملك من شؤون الأسرة وهمها ما لا تطيق، وأخشى لو سردت عليك القصة أن يئن من هولها قلبك الصغير!
ـ ولكن يا أمي، أنا لست صغيرًا كما تظنين، فأنا فى الثانية عشرة من عمري! وقد حصلت على الشهادة الابتدائية، وأنا أكبر إخوتى وأستطيع أن أستوعب القصة، بل أريد أن أتحمل معكِ نصيبًا منها.
ـ لا، لن أقول لك شيئًا الآن، فلم تفرح بشهادتك بعد. وقد وصلَنا خبر نجاحك وتفوقك بالأمس فحسب، وليس من العدل ألا تستمتع بثمرة جهودك فترة من الوقت.
ثم بدأنا عملية حمل المتاع من منزل جارنا ثانية إلى منزلنا، بعد أن تأكدنا أن المُحضر قد غادر القرية.
مضى يومان على هذه الحادثة. فى صبيحة اليوم الثالث بدأ الطَّرق الرهيب على الباب من جديد. فزعنا جميعًا. بدأت أدرك شيئًا من أسرار هذه الغارات المفاجئة. كذلك فزعت أخواتي، اللائى وإن كن براعم صغيرة، فقد أصبحن قطعة من هموم الأسرة. ألفن هذا النوع من الهجوم. كن دائمًا بالمنزل، وكنت أنا فى المدرسة بكفر صقر، تخفى عنى والدتى أنباء الأسرة وأزماتها، حتى لا يؤثر ذلك على دراستي.
لم أذهب إلى الباب لأفتحه هذه المرَّة، وبدأنا فى عملية نقل الأثاث إلى منزل جارنا مرَّة أخرى، لكن الطَّرق اشتد. وأدركت والدتى أن رتابة الطَّرق لم يكن لها ذلك الإيقاع الذى كان ينم دائمًا عن المُحضر. وصاحب الطَّرق نداء: «افتحى يا أم خليل، أنا على الخفير». اطمأنت والدتى بعض الشيء. فتحت الباب، وإذا بالخفير يلهث:
ـ المُحضر فى بيت شيخ البلد، وهو فى طريقه إلى هنا، هربى العزال بسرعة.
وتركنا وانصرف.
بدأنا، أمى وأخواتى وأنا، نقوم بالعملية المرهقة. نقلنا بعض الأثاث، ثم بدأ الدق المخيف على الباب. شحبت وجوهنا، وهلعت أفئدتنا، ومضينا فى عملية نقل المتاع. لكن الباب اندفع مفتوحًا، وضبطنا المُحضر متلبسين، نشترك جميعًا فى حمل كنبة. لم تستطع أقدامنا أن تحملنا، فتساقطنا على الأرض، وسقطت الكنبة من أيدينا.
ظهرت ملامح الانتصار على وجه المُحضر المكتنز، ودوَّن فى دفتره شيئًا، وانصرف. ثم بيعت الكنبة والكراسى بعد خمسة عشر يومًا.
تكررت غارات المُحضر، وتكرر معها الفزع والحرمان من الأثاث الذى نفترشه ونلتحف به، ومن القوت الضروري، أى من محصول الذرة الهزيل الذى أنتجته الأرض فى ذلك العام.
على أن هجمات المُحضر انحسرت فجأة. ولما كان الخوف يمكن أن يصبح جزءًا من الجهاز العصبى للإنسان، فقد خُيل إلى أن أمى وأنا قد أحسسنا بفراغ قاتل، عندما انقطع المُحضر عن زيارتنا! لقد ألفت قلوبنا أن تقفز مع طرقاته الثقيلة على الباب، واعتادت أرواحنا أن تهلع حينما يدفع الباب بساقه الضخمة، ويدخل علينا. نهزمه بتهريب الأثاث مرَّة، ويقبض علينا ممسكين به قبل أن ننقله إلى منزل الجار مرَّة أخرى.
وعلى الرغم مما كانت تحمله هذه الغزوات لنا من بأساء، إلا إنها على أى حال كانت فيها إثارة وحركة، افتقدناهما حين حرمنا من زيارات المُحضر. لقد أصبحت أنا وأمى وأخواتى كسالى: لا إثارة، ولا هلع، ولا نشاط، نقضى نهارنا وليلنا نتسلى بالصمت، ونتوه فى الضياع.
سألت أمى يومًا:
ـ لماذا لم يعُد المُحضر يزورنا؟
وأجابت:
ـ لم يعد هناك مبرر لزياراته.
ـ هل سُددت الديون؟
ـ لا، الديون كما هي.
ـ إذن، لماذا لم يعد يجيء؟
ـ لماذا يجيء؟ لم يعد لدينا ما يحجز عليه!
دمعت عيناى لأول مرَّة فى حياتي، ونظرت إلى عينى أمي، فوجدتها لا تبكي، فقد جفت محاجرها، وأصبحت تضن عليها حتى بالدموع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة