بغض النظر عن أن مسلسل "نجيب زاهي زركش" للكاتب المصري المبدع عبد الرحيم كمال مقتبس من مسرحية "Filumena Marturano" الإيطالية، التي تم تقديمها في فيلم أيضا عام 1964، يحمل عنوان "الزواج على الطريقة الإيطالية"، وقام ببطولته مارسيلو ماستروياني وصوفيا لورين، وهو الأمر الذي تسبب في كثير من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي طوال شهر رمضان، إلا أنني أرى أن (كمال) نجح في صناعة سيناريو رائع جمع بين الفانتازية الفكاهية والتراجيديا الإنسانية، وبدوره غلفها الفنان القدير (يحيى الفخراني) بأداء احترافي استطاع أن ينتشلنا من أوجاع فيروس (كورونا) الذي كان ضيفا ثقيلا على مائدة رمضان، وخفف في الوقت ذاته من جرعة العنف والبلطجة التي سادت بعض الأعمال، ناهيك عن بعده تماما عن آفة الملل والتطويل.
ذكاء "الفخراني وكمال" في أنهما جعلا "نجيب زاهي زركش".. يتقدم بخطوات محسوبة منذ الحلقات الأولى مستندا إلى إيقاعه الخاص، على الرغم من أن الشاشات العربية كانت مليئة بكل ما هو مبهر وجاذب ولديه مساحات من القدرة على الاستحواذ ، وربما يرجع ذلك إلى أن (عبد الرحيم كمال) كتب سيناريو خلط فيه بين أحدث واقعية وأخرى خيالية، واستطاع أن يجذب الجمهور في عنفوان موسم من أقوى المواسم الدرامية في مصر والعالم العربي، وذلك بفضل توافر مساحة أخرى تماما ذهب إليها "زركش"، وكأنه خارج السياق والسباق الدرامي السائد.
نعم كان (نجيب زاهي زركش) كان نغمة مغايرة هادئة ومختلفة وبإيقاع يجمع بين الكوميدي والتراجيدي، حيث يقف فيه على شاطئ دراما الشخصية، وفي نفس الوقت يتحرك بهامش محسوب بدقة من "الفانتازيا"، لا نطل عليه بزاوية رؤية واقعية تماما، ولا هي أيضا خيالية تماما، فهي مزيج بينهما، فالمعلومات المتداولة عن أصل تلك العائلة لا صلة لها قطعا بالتاريخ الموثق، حيث يحكي في الحلقة الأولي الممثل محمد محمود عن أصول العائلة ودورها في التاريخ الفني المصري وتحديدا السينما، واختيار السينما ليس عشوائيا، فهو يمنح الخيط الأول للخيال، ولكن ليس له قطعا صلة بحقيقة نشأة السينما في مصر.
يقف الفنان الكبير والقدير (يحيى الفخراني) مجددا مع الكاتب عبد الرحيم كمال بعد لقائهما الأول في ( شيخ العرب همام) قبل أكثر من عشر سنوات، وتعددت النجاحات وأوصلنا بتواجد شادي الفخراني المخرج إلى الذروة في مسلسل (الخواجة عبد القادر) 2012 ، وتتعدد الأعمال التي جمعت هذا الثالوث مثل (ونوس) و(دهشة)، لكن الفخراني يقدم هذه المرة شخصية بها وقع وروح السنين التي يعيشها، وبها أيضا التمرد الذي كان أحد أهم أسلحته للبقاء كل تلك العقود من الزمن، وبراعة (كمال) في أنه صنع بحرفية الشخصية الموازية دراميا، طريف أو محمد محمود (الجوكر)، الذي يؤدي كل الأدوار في حياة نجيب، فهو الصديق والسكرتير والسائق والعقل المدبر للكثير من المكائد، فهو يملك كل المفاتيح .
وإذا كانت شخصية (زركش) لها مقومات شكلية وحركية ونفسية، فإنه يزال هناك من يحاكم العمل الفني أخلاقيا، وهكذا استفز البعض من رواد السوشيال ميديا تلك الكؤوس من الخمر التي احتساها الفخراني، والتي كانت بالصدفة في الحلقة الأولى وتكررت بعدها، متجاهلين أنها تحدد ملامح "زركش" ولا علاقة لها بمن يلعب دور زركش، حيث كان يروي علاقته بالزمن وتوقفه عن حساب السنين بعد الكأس الرابع والذي يُمثل العقد الرابع أيضا من العمر، حيث لا جدوى بعدها من استمرار العد، وهذا الهامش المحسوب بدقة من (الفانتازيا) تمثل في غموض شخصية هالة فاخر (شفيقة)، التي رأيناها في القصر وقد استقرت في غرفة نومها تهذي بكلمات غير مفهومة.
ولقد جاء الفنان محمد محمود، في هذا المسلسل بمداد إبداعي مغاير، هذا الممثل الذي ربما لم يكن يعرف اسمه كثيرون قبل الحلقة الأولى من (زركش)، حيث يقف لأول مرة بطلا موازيا وفاعلا مع يحيى الفخراني، ليقدم معلومات عن تاريخ العائلة والشخصيات التي سنلتقيها، وكسر الخط الوهمي مع الجمهور، يوقظ بداخلك ما هو أبعد من الحكاية، حيث يتنبه العقل لظلال الحكاية وليس الحكاية، ولا يكتفي محمد محمود فقط بالقيام بهذا الدور في الحلقة الأولى، بل تستمر لعبة الإيقاظ العقلي ومع تتابع الحلقات، وتعاد مجددا تشكيل العديد من الخيوط .
وظني أن مثل هذه الأعمال الخارجة عن السياق والمألوف الرمضاني تتكئ على نجم كبير له مصداقية في الأداء عبر تراكم نوعي من النجاحات السابقة في أعمال تعد من أيقونات الدراما المصرية الحديثة، وهو ما ينطبق بالضبط على يحيى الفخراني، صاحب الرصيد الأكبر من العلامات الدرامية عربيا عبر ما يربو على أربعة عقود من الزمان، والذي قال عنه الدكتور ثروت الخرباوي أنه في بدايات يحيى الفخراني كنت أراه هو ولا أرى الشخصية التي يؤديها، كانت طريقته واحدة في كل الأدوار، هو الفخراني عند الانفعال وعند الهدوء وعند الابتسام والضحك، يؤدي بنفس الطريقة وهو يتقمص كل الشخصيات، لذلك كنت أرى الفخراني ولا أرى الشخصية التي يؤديها، وأصدقكم القول إنني كنت أصاب بالملل من طريقته الواحدة، ولكن فجأة حدث شيء ما لا أعرفه جعل من الفخراني شخصا آخر، وكأن ساحرا أسطوريا وضع عصاه على رأس الفخراني فإذا به ينتقل إلى وداي العباقرة، كان ذلك في مسلسل ليالي الحلمية، وكان الدور الذي يؤديه هو الباشا (سليم البدري)، وعلى مدار أجزاء هذا المسلسل كنت أرى سليم البدري، ونسيت يحيى الفخراني تماما حتى عندما كانت حلقة تفوتني فكنت أسأل من تابعها عن سليم البدري وليس عن الفخراني.
يعود "الفخراني" في مسلسله الرمضاني "نجيب زاهي زركش" هذا العام بنفس كوميدي متجدد، يبدو من الوهلة الأولى متباينا مع شخصيته السابقة قبل عامين "نادر التركي" في مسلسل "بالحجم العائلي"، فيطل علينا من خلال شخصية رجل ثري يكتشف بعد 30 عاماً أن لديه ابنا من بين ثلاثة أشقاء "سعيد وسعد ومسعد" من زوجته (شفيقة) التي أدت دورها في العمل الممثلة القديرة هالة فاخر بامتياز وهي على فراش الموت، فتبدأ حبكة كوميدية متشعبة وخفيفة الظل، وقد برع الكاتب عبدالرحيم كمال في ابتداعه لشخصية "زركش" الذي يرحل بنا في اكتشاف ذاته متنقلاً بين الكوميديا والمأساة التي تذكرنا بأحد أعمال رائد المسرح الألماني الشهير "بريشت"، الذي يروي حكاية إقطاعي يعيش في قرية نائية مع خادمه المطيع، فيعاني أمزجة سيده المتقلبة، في مقاربة لشخصية "نجيب زاهي زركش" وخادمه الفنان، محمد محمود، في دور "طريف".
وليس هناك شك في وزن وقيمة الحضور الذي يسجله "الفخراني" في كل مرة، يطل من خلالها على الشاشة، إلا أنه برع بشكل خاص هذه المرة في تقديم شخصية "نجيب زاهي زركش" باقتدار وحنكة استثنائيين، سواء في الجزء المتصل بتقلباتها المزاجية السريعة وصراعاتها النفسية المتعددة، أو لحظات القلق والحيرة التي سرعان ما تتحول، بين الصباح والمساء، إلى بهجة عارمة، كل ذلك جسده الفنان بحكمة الخبير الذي كشف لنا ليس فقط عن حضوره الباذخ على الشاشة، بل وعن تكامل أركان هذا الحضور ومدى تناغمه مع مختلف النجوم المشاركين في العمل.
ونظرا لأنه "معجون بمياه الموهبة"، والتمثيل متعته ، والوقوف أمام الجمهور أو الكاميرا يخرج الحاوي بداخله، فقد بدا لي هو القادر على إحداث البِدع، و على مقام الدهشة كعادته تفوق "الفخراني" متجاوزا سقف التوقعات، ليذهب بالمشاهد إلى غاية ما يحلم به عشاق الأداء والإبداع، بينما هزم "كمال" خيال "بريشت" فى عقر داره، حين تخطَت خطوطه الدرامية فى "نجيب زاهي زركش" الحبكة والخطوط البريشتية المعهوده فى أدبه، والمحاطة دوما بأسلاك شائكة يصعب معها تجسيده دراميا - بحسب نقد عصره - لذا لم يترك المؤلف ثغرة إلا وأجاب عنها قبل أن يطرح السؤال، وعلى درب الإبداع ذاته أكمل لوحة الأداء الاستثنائى للفخراني، وجدية وبراعة "كمال" الفنتازية بحس تراجيدي كوميدي، حرفية وبساطة المخرج الشاب "شادى الفخراني"، الذى أجاد تفكيك طلاسم النص الروائى إلى مشاهد متجانسة، مستغلا عناصر الديكور وأجواء التصوير فى صناعة عمل درامى يأتى على نحو مغاير.
خطوات واثقة وإصرار على النجاح، واصل النجم يحيى الفخرانى من خلالها طريقه فى عالم التمثيل، ليصبح واحداً من أكبر نجوم مصر فى الدراما، وربما كان الفخرانى محظوظا بانطلاق نجوميته مع جيل ما بعد حرب أكتوبر، والذى انطلق فى أواخر السبعينيات، ليغير اتجاهات السينما المصرية، ناقلا مشاكل الواقع إلى الشاشة، ويعد الفخراني واحد من أهم ملوك الدراما المصرية، والذي تحظى أعماله بمشاهدة قوية رغم المنافسة الرمضانية الشديدة، كحال "نجيب زاهب زركش" هذا الموسم، فهو الضيف المرغوب فيه دائما وأبدا في رمضان، والذي في حال غيابه يتساءل المشاهدين عن سبب ذلك، ويتسم الموسم وقتها بفقدانه لأحد أهم عناصره، فهو قادر على جذب المشاهد مهما كانت مرحلته العُمرية، ويساعده على ذلك المفاجأة التي يحملها لجمهوره كل عام في أعماله.
ومما لاشك فيه أن هنالك عناصر إبداعية قادها المخرج شادي الفخراني الذي يتعامل باحترافية مع يحيى الفخراني فهو الممثل الموهوب بالنسبة له، كما أن الفخراني يختار شادي لأنه المخرج القادر على تقديم رؤية فنية، وبالطبع تظل هنا مساحة خلاف في الحكم على موهبة شادي، لا يحسمها سوى ما تُسفر عنه الشاشة مع الحلقة الأخيرة، ولهذا تعامل منذ البداية مع "القصر" بحرفية شديدة باعتباره ذلك المكان الأساسي الذي تجري داخله الأحداث، وقد ساعده في ذلك براعة الديكور الذي رسمه خالد أمين، كما أن موسيقي خالد حماد تذوب داخل الكادر، ويرسم ومدير التصوير سامح سليم الملامح العامة للقصر بالإضاءة التي تؤكد الفخامة.
وأشيد بوجه خاص بشخصية الشقيقة المتسلطة أنوشكا (شيرين)، وقد أدتها بعذوبة كما هو معتاد منها كممثلة ذات قدرات خاصة تقوى على التفاعل مع شخصياتها على نحو احترافي بالغ الدقة، وقد توافر لديها الإحساس الصادق و قوة التركيز للأفكار وقوة التذكر للحركة الجسمانية، فقد عاشت في الدور وتسللت تحت جلد الشخصية، وكان له المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية و منطقية الإحساس و القدرة على التحليل النفسي لشخصية "شيرين" ، فإذا لم يكن هناك معين في داخل الممثل ليخرج منه هذه الأشياء عند قيامه بأحد الأدوار فهو ليس ممثلا، ومن ثم يجب على الممثل أن يمتاز بعقل و جسم نشيط، ففي هذا العقل والجسم النشيط تكمن القوة الديناميكية لتكوين الشخصية كما قدمتها "أنوشكا" على هذا النحو المبهر.
وعلى درب الأداء الجيد سار كل من "رنا رئيس" التي تؤدي دور (نانسي)، وهى الأقرب لقلب "زركش"، وتتواصل لعبة الأداء السلس مع دخول 3 من الشباب يعتقد الفخراني بأن ابنه واحدا منه، هم "رامز أمير" في دور مسعد، و"إسلام إبراهيم" في دور سعيد، وكريم عفيفي في دور سعد، وكل هؤلاء بفضل براعة مايسترو العمل "شادي الفخراني" قدموا معذوفة ممتعة في قدرة فائقة على التناغم والانسجام الذي أكسب المسلسل بريقا خطف المشاهد وأوقعه في حصة كبيرة من متعة المشاهدة التي تفضي إلى البهجة والسرور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة