ننشر مقالة نقدية لـ الكاتبة والمترجمة زينب محمد عبد الحميد، عن رواية "العزبة" لـ للكاتب والمترجم يوسف نبيل.
أول ما يلفت انتباه من يتابع روايات الكاتب يوسف نبيل، هذه البداية المختلفة لروايته الجديدة، حيث يقرر التحدث إلى قارئه مباشرة، فيسأله عن سبب قراءته، ويبدأ الراوى سرده بسؤال القارئ: "من أين نبدأ حكايتنا؟" فى محاولة منه للحث على إشراكه فى البحث عن إجابة لاستفساراته.
تأتى الفقرة الثانية لتضع أمامنا تفسيرًا لهذه البداية الجديدة التى يطرحها "نبيل" فى عالمه الروائى، إذ ينقل عن لسان تولستوى فى يومياته قائلا "نحن نطلق كلمة سبب على تلك الحالة التى سبقت الظاهرة وكشفتها لنا وسط مسار معين من الأفكار" فيصير من الجلى لنا كيف تأثر نبيل بترجمته ليوميات تولستوى، إلى الحد الذى دفعه لبدء روايته مستعينًا بقبس من تساؤلاته وإجابات فى آن، ثم كانت أول النتائج التى توصل إليها الراوى أن "الزمن وهم"، فندرك أن ما سيسرده أمامنا لن ينطلق فى اتجاه زمنى مقصود لذاته، بل إن الزمن لا يتعدى كونه نقاطا افتراضية يصلح البدء من أى منها، إذ يطرح أمامنا فكرة انبثاق الحدث وتبعاته عبر موجات تُجَلّيها الشخصيات بأفعالها؛ فيقول: "لا معنى إذَنْ لنقطة بداية أو نهاية"، ومن ثمّ جاء الارتكاز على العنصر المكانى متمثلا فى "العزبة" لتبدو نقطة تجتمع حولها الشخصيات، وتنطلق منها موجات الحكى التالية.
تبدأ أحداث الرواية من فاجعة انهيار مجمع سكنى شعبى إثر التوغل فى عمليات حفر وهدم كان الغرض منها إقامة منتجع سكنى فاخر فى قلب القاهرة، تسرد أمامنا الأحداث هذه الفاجعة فى لمحة إنسانية تعمق من شعورنا بالمأساة، فإذا بطفل يحلم بارتداء حذاءه الجديد يموت، ورجل آخر يجترفه الجنون، وامرأة عجوز لا تنجو من الانهيار، يأخذ هذا الحدث الذى نظنه قد مضى بعدًا جديدًا إذ يفرض السرد حضوره فى الأذهان عبر صفحات الرواية، فيصير ماضيا ومتجددا منقضيا وحاليا. ويعزى الراوى هذه الفكرة الدائرية للحدث – بما فيه من زمن الوقوع – إلى مدى إدراكنا واستيعاب رؤيتنا لحقيقة الأمور، فيقول "الحدث الذى نظنه قد جرى لا يزال يجرى وسيظل يجرى دائمًا، وكل ما فى الأمر أننا غير مؤهلين لرؤية الأمور فى كليتها. إننا لا نرى سوى ما ينكشف لنا بقدر ما وُهِبنا من قوة، وربما فى حياة أخرى أو فى ظرف آخر سنتمكن من رؤية قلب الأحداث وحقيقتها، وحينها سنرى كل هذه الرواية فى لحظة واحدة، إن كان من الممكن أن نسميها لحظة!".
زينب محمد عبد الحميد
يعود الراوى إلى تيمته الأولى حيث التساؤل عن الجدوى، ومشاركة القارئ فى الحكاية عبر محاولة توريطه للبحث ليس فقط عن إجابات، بل وعن مزيد من الأسئلة "نعيش وسط ضجيج لا ينتهى، وأصوات لا متناهية بدءًا من حركة أجرام ومجرات كاملة لا نراها وحتى صوت تقلصات قولون يتألم من كثرة البقوليات. من بين هذه الأصوات نحاول تتبع أصوات حكايتنا، هل يمكن أن نروى حكاية بعينها وسط فوضى التفاصيل؟"، هنا يحاول القارئ طرح سؤاله عن هذه التفاصيل خاصة وأن الحدث المركزى بدا مطروحًا أمامه عبر صفحات الرواية الأولى، فحكاية انهيار العزبة ومأساة أهلها صارت معروفة، إلا أن متابعة للرواية تكشف أن ثمة تيمة تقصد تسليط الضوء على الشخصيات عبر تطورها النفسى والسلوكى والانفعالى، فى تنوع بين الأنماط المطروحة.
يأخذ الراوى العليم على عاتقه سرد كثير من الأحكام وقد صار القارئ يشاركه مسبقًا معرفة الحدث الذى ستؤل إليه مسارات الحكاية "لا يعرف (نظير) شيئًا عن حكايات أولئك الذين دُهسوا تحت أنقاض أبو دقة، ولا يعرف أن كل خطوة يخطوها تُقرِّبه رغمًا عنه منها، تمامًا مثلما لا يعرف نجم أن حركته وسرعته ستفضيان به إلى الاصطدام بجرم ما، وأنه عبر ملايين السنين ربما يؤدى ذلك إلى تشكل جرم آخر أو وقوع كارثة محققة فى كوكب قريب"، إلا أن الراوى لا يلبث أن يعود بنا بين الحين والآخر إلى نقطة التساؤلات الأولى حول الزمن فى صورة تبدو "وجودية" ومعالجة قد أصفها بالدائرية، إذ يسير زمن الشخصيات فى مسار واحد ومحدد، يصلح من خلاله الحكى من أية نقطة زمنة "إن حياة هذه السيدة العجوز بأكملها، من الميلاد وحتى الموت، موجودة فعلا، بغض النظر عن نقطة بداية أو نهاية متوهمة لها"، وهنا قد نتساءل عما ستضفيه الشخصيات فى الصفحات التالية على الحدث، وربما أجد الإجابة فى "التحليل النفسى" للشخصيات وردود أفعالها تجاه الأحداث، أخذت الرواية فى طرحها لشخصية "نظير" منحى يعمق شعور القارئ نحوه بالدناءة إذ نتخلل إلى مشاهد "مونودراما" ذات مكاشفات شديدة الفجاجة والوضوح؛ إذ يقول نظير "قد يكون الحل أمام عينى، ولكن آه من الخوف الخسيس! صحيح أن جميعهم يشارك فى توزيع الرشاوى لكن ما يمنعنى من فعل ذلك هو عدم معرفتى بقوانين اللعبة."
وكما بدأ يوسف نبيل بداية تختلف عن رواياته السابقة، فإنه يأخذنا بشخصيات رواية "العزبة" إلى تيمة متكررة فى أعماله الروائية، تعكس إدراكه لمخالب المجتمع الأبوى الذى نحياه، حيث تتجسد شخصية الأب فى عباءات وتنويعات سياقية ودرامية مختلفة؛ فنجد والد مراد عبد العظيم قد ظلمه ومنعه من التعليم وقد فضل عليه أخيه فى كل شىء؛ يقول مراد بعد وفاة والده: "ظن الجيران الذين حضروا الموقف أنى أبكى موت أبى، لكن الحقيقة أنى كنت أبكى لعدم شعورى بالحزن عليه"، أما المهرب للظلم المجحف من الأب أو "سيطرة العالم البطريركى" فإنها فى كثر من الأحيان تتجسد فى الفنون؛ فيتجه مراد إلى الرسم "الفن ابن المعاناة" فى محاولة لتحقيق الذات بعيدًا عن الأب الظالم الذى يوافق على استغال طاقته "وافق أبى على الفور رغم كراهيته الشديدة للرسم، لكن إغراء توفير أى مبلغ من المال لصالح قرة عينه كان أكبر"، ثم يتمثل مراد فكرة "الرسم" فى كثير من المواقف، ليغدو أحيانًا خلاصه وأخرى جحيمه.
يعد نموذج الأب الذى يظلم ابنا من أبنائه أحد ثلاثة نماذج أخرى تطرحها الرواية إذ تتطور الأحداث بـ"مراد" ليتعرف إلى فتاة يخطبها، ويقدم لها "الشبكة" من أموال يتحصل عليها مقدمًا مقابل رسمه لستين لوحة تحمل ملامحها، ثم يكتشف فيما بعد أن أبوها يبيعها هى الأخرى إذ استولى على تسع هدايا ذهبية من غيره من الخطاب، أما نظير ثابت فإنه شخصية تتمتع بأوجه متضاربة؛ إذ يلتزم بحضور الطقوس الدينية ويسعى لسفر ابنه فى محاولة لإنقاذه من "الصياعة" إلا أن وجه الأب الفاسد سرعان ما ينكشف، بل يتجرأ ابنه بعد سفره بإرسال سباب مباشر إليه "بدأ نظير ثابت قراءة الرسالة: أبى غير الحبيب، صدفة بيولوجية حمقاء جعلتنى ابنك..."، ثم يبيع ابنته هو الآخر، إذ يكتشف اعتداء رجل دين عليها ولا يسعه سوى الصمت.
تمزج الرواية بين مأساة مراد عبد العظيم الابن المظلوم، وظلم الأب نظير ثابت فى سرد يلتفت إلى كل منهما عبر سطور متوالية، لتضع الرواية أمام أعيننا هذه المفارقات التى نحياها "إن كان مراد يواجه عذابًا فنيًّا، فثمة نوع آخر من العذاب يواجهه نظير، وهو لا يدرى أن عذاباته ستزداد وتتخطى كل حد". بل تجمع بين الشخصيتين فى نقطة زمانية ومكانية واحدة تحيلنا إلى البداية المتسائلة عن إدراكنا للزمان واتكاء الرواية على المكان كنقطة وبوتقة تحمل شخصياتها على اخلافها "يقف نظير ثابت ومراد عبد العظيم على الأرض ذاتها، فى المنطقة عينها، يُحدِّق كل منهما فى الركام الذى يحجب أصوات ضحايا لم يصل إليهم أحد" أما "العزبة" فقد غدت تتناقل حكايات الجحيم الذى لم يفرق فى هلاكه بين قاطنيه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة