"الثأر" من الجرائم التي عانى منها الصعيد ردحًا من الزمان، وكلف هذا المجتمع فاتورة باهظة من "الأنفس والمال"، حتى بدأت هذه الجرائم تختفي وتتلاشى بشكل سريع خلال السنوات الماضية.
اختفاء الثأر من الصعيد لم يك بالأمر بالسهل، والتخلي عن هذه الثقافة الخاطئة لم يك بالأمر الهين، فقد سبق ذلك جهودًا ضخمة، شاركت فيها مؤسسات حكومية على رأسها الداخلية والأزهر الشريف والأوقاف، ورموز العائلات والقبائل في الجنوب.
قديمًا، كانت هذه الثقافة الخاطئة متوطنة في الجنوب، فلا تبرد النيران رغم مرور عشرات السنوات، ولا يقام عزاء للقتيل إلا بعد الأخذ بثأره من عائلة القاتل ولو بعد حين، فلا تتعجب وأنت ترى عزاء لشخص قد مات منذ 25 سنة، وابنه كان طفلًا وقد صار رجلًا وتزوج بعد ربع قرن من الزمان.
وسط هذه العادات الخاطئة، كان يدفع الثمن أشخاص أبرياء، فيموت شخص قتيلًا بمجرد أنه ينتمي لعائلة القاتل وأنه الأفضل والأشهر بالعائلة، فيتركوا القاتل الحقيقي ويقتلوه، حتى يكون الألم أشد لعائلته.
أموالًا ضخمة كانت توجه لهذه العادات الخاطئة، فينتعش "سوق السلاح" في فترة بيع المحاصيل الزراعية، ليكون وسيلة لتنفيذ الجرائم، وينتهي الأمر بعواقب وخيمة، لنرى "شخص" يذهب للقبر، وآخر للسجن وربما يقابل "عشماوي" وسيدات يترملن، وأطفال أيتام، بسبب ثقافة خاطئة ولذة البعض في الانتقام.
ما أقوله لك هنا ليس كلامًا إنشائيًا، فقد حاورت قبل عدة سنوات من الآن، أكبر سجين في السجن، والذي صدر بحقه أحكام بالسجن لمدة 65 سنة، لاتهامه في جريمة قتل وجرائم أخرى كان مجموع أحكامها 65 سنة، قضى منها 45 عامًا خلف القضبان قبل خروجه بعفو، حيث دخل شابًا وخرج عجوزًا، يلعن الثأر الذي زج به خلف أسوار السجون، ليضيع العمر بسبب الثأر، وما أن يخرج من السجن ويقرر بدأ حياته الجديدة حتى يداهمه الموت بعد خروجه بأيام.
الأمر كان كارثي، قبل عشرات السنوات من الآن، إلا أن المشهد تغير خلال السنوات الأخيرة تمامًا، فقد نجحت الجهات المعنية في القضاء على الثأر، وخلت مشاهد القتل والدماء من الصعيد، وظهر بدلًا منها سرادقات الصلح التي تقام تحت إشراف وزارة الداخلية التي توسعت بشكل ضخم في هذا الأمر، لينتهي المشهد بالصفح والعناق وينتهي سلسال الدم تمامًا.
بالتوازي مع جلسات الصلح، ونجاح مبادرات "صعيد بلا ثأر"، كانت حملات الداخلية بناءً على توجيهات اللواء محمود توفيق وزير الداخلية، تتوغل في المناطق الوعرة بالجنوب لجمع السلاح والقبض على حائزيه، ليعم الأمن والاستقرار، ويعود الهدوء لصعيدنا بعد جهود ضخمة بذلت خلال الفترة الماضية.