- الشارع يحتج على الطبقة السياسية وممارسات الإخوان.. والرئيس ينحاز لإرادة الشعب ويرفع الدستور فى وجه الانحراف ومحاولة اختطاف مؤسسات الدولة
- الإخوان دبروا مؤامرة للإطاحة بالرئيس بحسب أستاذ قانون دستورى.. واستخدموا الحكومة المقالة فى مواجهة قصر قرطاج وانتهكوا النصوص الدستورية عمليا طوال سنوات
- تعطيل إرساء المحكمة الدستورية إشارة واضحة إلى رغبة "النهضة" فى السيطرة والاستحواذ على السلطة.. وشرعية الرئيس تكبح قطار الحركة الأهوج
مظاهرات شعبية حاشدة، تبعتها قرارات رئاسية جريئة، تسلّحت بنص الدستور، ثم ماكينة دعائية ممنهجة حملت حزمة من المغالطات والقفز على القانون وحقائق الواقع.. هكذا سار المشهد السياسى التونسى خلال الأيام الأخيرة، بين إرادة الشارع، وجرأة الرئيس، ومغالطات الإخوان.
لم تكن قرارات الرئيس قيس سعيد، مساء الأحد 25 يوليو الجارى، إلا تعبيرا أخيرا عن أزمة بزغت وتشكّلت فى كواليس السياسة التونسية طوال سنوات، ووصلت مراحلها الصعبة منذ مطلع العام الجارى وما تلته من شهور، وتلخيصها أن فريقا من الطبقة السياسية لا يرتضى المساحة التى يحوزها داخل المنظومة، ويسعى إلى توسعة نفوذه والاستحواذ على السلطة، حتى لو تجاوز الدستور أو تغوّل على بقية المؤسسات، ورغم الموقف الشعبى الرافض لتلك المحاولات فإن هذا الفريق واصل طريقه باتجاه هدف "التمكين"، ناعما كان أو خشنا، معتقدا أن رأس الدولة لا تملك ما يكفى من أدوات الردع.
فى المقابل، احتفظ الرئيس قيس سعيد بأقصى قدر من الهدوء ومحاولات الاحتواء طوال شهور، وعندما تطورت الأمور إلى مسارات سلبية تحدث إلى الشعب والسياسيين، وحذر من مغبة الإقدام على تحدى الإرادة الشعبية ونصوص الدستور، أو السعى لفرض النفوذ بغية تحقيق تطلعات شخصية لا تتوافق مع رغبة الشارع. كان آخر هذه التحذيرات خلال يونيو الماضى، وقتها أشار الرئيس إلى أنه قد يضطر لاتخاذ مواقف وإجراءات حاسمة قبالة تلك التحركات غير المنضبطة بنصوص الدستور والقانون ومُحددات المصالح الوطنية والإرادة الشعبية. للأسف لم يسمع الإخوان وحلفاؤهم، فكان غضب الشارع واستجابة الرئيس!
لعبة الإخوان غير الوطنية
يعود الأمر إلى أكثر من عشر سنوات. إذ مع اندلاع الثورة التونسية أواخر العام 2010 اعتبرت حركة النهضة أنها فرصتها المواتية لدخول الملعب السياسى، وقطع الخطوة الأولى باتجاه استراتيجية التمكين المحببة إلى قلوب الإخوان كغاية عليا. تحالفت الحركة مع بعض تيارات السياسة، بل إنها وظّفت الرئيس الأسبق منصف المرزوقى المحسوب على اليسار فى خدمة أجندتها، لكن الفترة اللاحقة حملت رياحا مضادة لأحلام الحركة، فرعم حظوظها الإيجابية فى انتخابات مجلس نواب الشعب، حمل الناخبون رئيسا مدنيا إلى واجهة السلطة، وسارت الأمور بين شدّ وجذب حتى رحيل الرئيس الباجى قائد السبسى.
تطلّعت النهضة وقتها إلى اقتناص كل السلطات؛ فرشحت نائب رئيسها عبد الفتاح مورو فى انتخابات الرئاسة، ثم دفعت بالغنوشى لرئاسة مجلس نواب الشعب. لكن مقابل تلك الأطماع جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية فى جانب مضاد، ومنذ اللحظة الأولى مارست "النهضة" سياسة برلمانية منحرفة، بغية التغول على سلطات الرئيس وصولا إلى تحييده وفرض الهيمنة الكاملة على المشهد السياسى، وهو ما لم يُعجب أو يُقنع السيد قيس سعيد أستاذ القانون الدستورى، لكن الأهم أنه لم يجد قبولا من الشارع وكان شرارة لموجة غضب شعبية ضخمة ومُتنامية.
داخل تلك اللعبة الإخوانية المعتادة، استخدمت الحركة أوراقا عديدة بعضها جديد وأكثرها قائم منذ سنوات. اصطدمت بحكومة إلياس الفخفاخ وسعت إلى إنهاء ولايتها من أجل تشكيل حكومة إخوانية أو تابعة فى أغلبها لحركة النهضة، وتشددت فى مفاوضاتها مع القوى السياسية حتى ذهب الأمر إلى عهدة الرئيس الذى اختار هشام المشيشى لرئاسة الحكومة، لتذهب الحركة لاحقا للتفاوض والتنسيق مع المشيشى من وراء ستار، أولا لإحكام السيطرة على الحكومة، وثانيا من أجل توظيف رئيسها كورقة ضغط ومناورة فى صراعها مع الرئيس والسلطات الدستورية.
أوضح تلك المنعطفات برزت خلال يناير الماضى، بإجراء المشيشى تعديلا محدودا على حكومته بتنسيق كامل مع حركة النهضة، ودون أى تشاور أو تنسيق مع الرئيس حسبما يقضى الدستور. هكذا مرت التعديلات بأغلبية ميكانيكية داخل مجلس نواب الشعب، لكن قيس سعيد تصدى للأمر رافضا استقبال أحد عشر وزيرا جديدا لأداء اليمين، اعتراضا على تجاهل الدستور وما قال إنها "مخالفات شابت عملية التعديل، وشبهات فساد وتضارب مصالح تطال عددا من الوزراء الجدد". وللأسف سعت حركة النهضة لاستخدام ورقة المشيشى نفسها فى مواجهة قرارات الرئيس، قبل أن يخرج الأخير فى بيان مساء الاثنين معلنا قبوله لإقالة الحكومة وجاهزيته لتسليم المسؤولية للمكلف الذى سيختاره الرئيس.
مغالطات منطقية ودعايات فجة
أمام جشع الإخوان وتعنتهم، ومحاولات اختطاف الدولة وسلطاتها، لم يجد الرئيس قيس سعيد حلا سوى تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسى، وهو ما يمنحه الحق فى اتخاذ إجراءات وتدابير استثنائية لآجال محدودة، بغرض دفع أو التصدى لمخاطر وأزمات تهدد الدولة ونظامها. فى المقابل سعت جماعة الإخوان وحلفاؤها ودعموها من الداخل والخارج إلى استهداف هذه الإجراءات المستجيبة للشارع، والمدعومة منه، بحزمة من المغالطات المنطقية والقانونية، بشكل يتناقض مع طبيعة النظام السياسى وصلاحيات الرئيس، ويتجاهل تجاوزات الحركة بأغلبيتها البرلمانية وسيطرتها الواضحة على الحكومة ورئيسها، والأفدح أنه يتجاهل الشعب ولا يعير انتباها لبركان الغضب المتدفق فى أرجاء تونس وشوارعها.
الأكذوبة الأكبر فى موقف النهضة من قرارات الرئيس، تمثلت فى ادعاء أنها انقلاب على الشرعية، بينما يُمثل السيد قيس سعيد الشرعية الشعبية والدستورية، وتمتلئ الشوارع بآلاف الغاضبين من ممارسات النهضة والمؤيدين لسلطة "سعيد"، والأهم أن الفصل 80 من الدستور واضح فيما يضعه على كاهل الرئيس من التزامات وطنية بالتصدى لأية مخاطر أو تحديات، ويخوّل له اتخاذ ما يلزم فى ذلك من إجراءات وتدابير استثنائية، وفى المقابل فإن نصوص الدستور نفسها تشير إلى خروقات ضخمة ارتكبتها حركة النهضة وحلفاؤها طوال سنوات، منذ إقرار الدستور الحالى بالعام 2014.
أبرز خروقات "النهضة" الدستورية تتمثل فى المحكمة الدستورية، التى ينص الدستور فى الفصل 147 على تشكيلها بحدود سنة على الأكثر من أول انتخابات تشريعية، أى فى العام 2015، وبعد أكثر من ست سنوات من هذا الأجل ما تزال المحكمة غائبة، لأن برلمان الإخوان فشل فى انتخاب 4 قضاة يمثلون حصته من قضاتها الاثنى عشر، ثم تحايلوا على هذا الفشل بتعديل النصوص من أجل تقليص الأغلبية المطلوبة لانتخاب القضاة من الثلثين إلى ثلاثة أخماس، وهو ما رفضه الرئيس نظرا لتجاهل الحركة وبرلمانها وقانونها وإجراءاتها للدستور سنوات عديدة، بينما النص يقيد تشكيل المحكمة بسنة على الأكثر من إقراره.
إلى ذلك، سعت الحركة إلى تصوير قرار تجميد أعمال مجلس نواب الشعب وكأنه افتئات على سلطة التشريع. أما الحقيقة فإن المجلس عطّلته "النهضة" عمليا بممارساتها الاستحواذية، وتغولها على الدستور والمعارضة، بل وصل الأمر إلى البلطجة والاعتداءات البدنية على النواب داخل أروقة المجلس، فضلا عن أن الفصل 57 من الدستور يحدد مدة دور الانعقاد بتسعة أشهر تمتد من أكتوبر إلى يوليو، ما يعنى أنه بصدد بدء إجازته السنوية خلال ساعات، وأنه بنص الدستور سيكون معطلا فعلا لنحو ثلاثة أشهر مقبلة.
مؤامرة النهضة وتهديدات العنف
خارج الموقف الراهن، تحمل الكواليس إشارات عديدة إلى محاولات إخوانية سابقة وممتدة لاستهداف سلطات الرئيس، بل وتطوير الأمر إلى اتخاذ إجراءات وتدابير للإطاحة به. عمليا حاول الغنوشى فرض وصاية واضحة ومباشرة على الدولة بكاملها، وتجلّى ذلك واضحا فى زيارات رسمية لبعض الدول بما لا ينضبط وفق التقاليد والأعراف وما تسمح به صلاحياته الدستورية، ثم اصطدام الحركة ومكوناتها بالرئيس، سرا وعلنا، ودفع رئيس الحكومة إلى مواجهة قصر قرطاج واستكمال لعبة الإخوان بالوكالة، وصولا إلى التخطيط الفعلى للإطاحة بالرئيس فعلا.
بحسب منشور للسيد نوفل سعيد، أستاذ القانون الدستورى وشقيق رئيس تونس، فإن حركة النهضة الإخوانية دبّرت مؤامرة للخلاص من الرئيس من بوابة الفصل 88 بالدستور، بدأت بالدفع المشدد والضغوط المتتابعة من أجل تسريع عملية تشكيل المحكمة الدستورية، واستخدامها كورقة أخرى فى مواجهة الرئيس إلى جانب ورقتى الحكومة والبرلمان، ثم العمل على إعداد لائحة مساءلة مسببة وتمريرها من مجلس نواب الشعب. لكن تجاهلت الحركة حدود الصلاحيات الرئاسية وما يُؤمّنه الدستور من إجراءات وتدابير، وحق الرئيس فى تأويل النصوص وفض التشابكات القانونية لا سيما فى غيبة المحكمة الدستورية، بعدما تعنت البرلمان وعطّل تشكيلها بغرض الاستئثار بها، ثم هرولته العشوائية من أجل تكوينها متأخرة 6 سنوات من أجل استخدامها أيضا فى سباق الاستحواذ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة