"الذين يحبون لا يتزوجون"
أتذكر هذه العبارة بعد ست سنوات من رحيل نور الشريف، هذه العبارة التي لخصت أزمة كمال عبدالجواد وخياله الذي ترجل عن خفة الأشياء، في قصر الشوق والسكرية من ثلاثية نجيب محفوظ، تسلل بعبارته التي تشظت لتكون صورته في لحظة برزخية لإنسان لا يأبه بالأقدار ويمشي وفق حدسه، يتمرد على الشكل ويغير النهايات كالصاعقة.
ظلت صورة كمال عبدالجواد في ذهني منذ صغري عصية على الفراق، وظل نور الشريف تجسيدًا لهذه الصورة، حتى أنني كنت أتجرأ وأقول أن نور "هو الممثل بتاعي" من فرط تعلقي بالصورة. ممثل كامل التكوين والإيقاع، حسًا وحركة ودراسة وموهبة، من كمال عبدالجواد وأزمته الوجودية وأحزانه التي تُنشط لديه غدة النقد الذاتي، إلى التائه الحائر بين الأضداد إبراهيم عبدالله بطل "أديب" قصة الدكتور طه حسين، نموذج الممزق بين الحلم والواقع، بين الأزهر والسوربون، بين جذوره في الصعيد ورأسه تتطلع إلى باريس، مرورًا ووصولًا إلى عشرات الأدوار التي قدمها ابن "قلعة الكبش" .. جغرافيته التي قفز عن جدارها متجاوزًا حلمه الصغير والبدائي في أن يكون لاعب كرة قدم ليولج في عالم التجلي الحر، فقام بتغيير موقعه بحركة مفاجئة كلاعب شطرنج من نادي الزمالك إلى المعهد العالي للفنون المسرحية.
خروجه من الجغرافيا لم ينسه التاريخ، فجاءت أغلب أدواره مستلة من مجتمعه ومعبرة عن ناسه دون الوقوع في فخ النمطية، حمل همومهم كما حمل ملامحهم، وأخذت أعماله تتجه تدريجيًا نحوهم وتبرز العلاقات بين البشر في واقع صعب يعلو فيه صراع الإنسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة، ينتقل من شخصية إلى أخرى بمخزونه العامر من الحياة والبشر، هذا المخزون هو ما ساعده ليكون يكون كمال عبدالجواد ثم عادل عوض في مسلسل "القاهرة والناس" إخراج محمد فاضل، ونور في "زوجتي والكلب" (1971) إخراج سعيد مرزوق، وشمس في "ضربة شمس" (1978) إخراج محمد خان، وابراهيم في "حبيبي دائماً" (1980) إخراج حسين كمال، وشطا الحجري في "الشيطان يعظ" (1981) إخراج أشرف فهمي، وزعتر النوري في "أهل القمة" (1981) إخراج علي بدرخان، وحسن في "سواق الأتوبيس" (1982) إخراج عاطف الطيب، وكمال في "العار" (1982) إخراج علي عبد الخالق، وجعفر الراوي في "قلب الليل" (1989)، وحسن عز الرجال في "كتيبة الإعدام" (1989) إخراج عاطف الطيب، وابراهيم القمحاوي في "أيام الغضب" (1989) إخراج منير راضي، ويوسف في "البحث عن سيد مرزوق" (1991) إخراج داود عبد السيد، وسيد في "ليلة ساخنة" (1995) إخراج عاطف الطيب، وشخصياته الأخرى الحاضرة في أفلام يوسف شاهين وغيرها من عشرات الشخصيات في أفلام تنوعت وتباين فيها التكوين النفسي والاجتماعي.
يتزاوج الأدب والسينما في مشوار نور الشريف بشكل حتمي لم يكن منه مفر، الثلاثية والسراب لنجيب محفوظ، بئر الحرمان لإحسان عبد القدوس، عصفور الشرق لتوفيق الحكيم، الإخوة الأعداء لفيودور دوستويفسكي، وغيرها روايات رصعت مشواره الحافل بنحو يقترب من 250 عملًا فنيًا ما بين السينما والمسرح والتليفزيون.
منجزه الأهم والفاصل بدأ في النصف الثاني من السبعينيات وامتد إلى الثمانينيات التي منحته استقلالًا نسبيًا خصوصًا، حينما أنشأ مع الفنانة بوسي شركتهما الانتاجية، كانت باكورة إنتاجهما "دائرة الانتقام" (1976) إخراج سمير سيف، نسخة أخرى من الرواية الشهيرة "الكونت دي مونت كريستو" التي كتبها ألكسندر دوما بالتعاون مع أوجست ماكيه، ليتحرر بعدها بحسه الواعي من دائرة النجومية الفارغة وليكون صانعًا في الحركة السينمائية والفنية وسباقًا في تقديم التجارب الجديدة والأسماء التي صارت علامات على خارطة السينما ( سمير سيف، عاطف الطيب، محمد خان، بشير الديك، محمد النجار و.. غيرهم)، بخلاف نجوم التمثيل.
تعامل نور الشريف مع السينما مثلما تعامل مع الحياة بحساسية الفنان المثقف، بوعي ما جعله لا يعيش على هامش لا يليق به، ولكن هل لابد أن يمتلك الفنان وعيًا سياسيًا ما؟ .. سؤالي الذي لم يجد إجابة قاطعة حين وجهته إليه ذات مرة، حيث قال: أتمنى أن يحدث ذلك، لأن الفنان الذي تتكون لديه رؤية يخلق مناخًا إبداعيًا جميلًا ينجم عنه حراك ثقافي وفني رائع في المجتمع.
ظل اسم نور الشريف هو الأول على الأفيش والأعلى أجرًا في الزمن الذي تأرجحت فيه السينما بين تجاربها الجديدة الموغلة في مجتمع بائس وبين أفلام ترزح تحت قوانين المقاولات، حتى قدم فيلمه "ناجي العلي" الذي جلب إليه عاصفة الهجوم والمشاكل والإقصاء عن محور الخارطة إلى هامشها، حيث أعاد ترتيب حياته بما يليق بخسارته اللحظية وعلى مهل رسم خطه الجديد كما شاء : "أنا أعتبر نفسي من المحظوظين حتى في مجال الخسارة، فخسارتي دائمًا معقولة، لأنني لا أحب المال، فإذا كانت الخسارة مادية فإنها ليست مؤذية بالنسبة لي".
حسن يفرمل بقوة الأتوبيس عندما يسرق لص نقود أحد الركاب في فيلم "سواق الأتوبيس"، ويغادر الأتوبيس ليلحق باللص الهارب، يجرى خلفه بين السيارات ثم يمسكه ويكيل له اللكمات منفجرًا بالغضب ، وهو يطلق صرخته الشهيرة: "يا اولاد الكلب".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة