نتابع التأمل فى حياة المصريين ونلقى الضوء على موسوعة مصر القديمة للعالم الكبير سليم حسن، ونتوقف عند الجزء الثامن الذى يأتى تحت عنوان "نهاية عصر الرعامسة وقيام دولة الكهنة بطيبة فى عهد الأسرة الواحدة والعشرين":
يقول سليم حسن فى التمهيد للجزء الثامن:
شغل هذا الجزء من تاريخ أرض الكنانة حقبة من الزمن تولى فى أثنائها حكم البلاد سلسلة من الفراعنة النكرات، الذين لم تبرز من بينهم شخصية نابهة تسترعى الأنظار بعمل من الأعمال الخالدة، كالتى قام بها فراعنة مصر العظام من قبل.
ولا عجب فى ذلك، فإن ملوك الرعامسة الذين خلفوا "رعمسيس الثالث" كانوا بطبيعتهم ضعفاء فى أخلاقهم، خاملين فى عزائمهم، وقد كانت آخر جذوة من الحماس ومضاء العزيمة تتقد فى نفوسهم قد خبت وتلاشت واستحالت رمادًا بموت "رعمسيس الثالث"، الذى كان يُعد بحق آخر بطل فى أسرة الرعامسة، التى استوت على عرش الكنانة عدة قرون.
والواقع أن هذا الفرعون قد أمضى مدة حكمه فى كفاح لإرجاع مجد مصر الضائع، وعزتها التى هانت وتضعضعت من جراء الغارات وغزوات الأمم المجاورة التى كانت تجتاح البلاد من كل الجهات، وبخاصة غارات أهل لوبيا، هذا إلى تفشى الفتن الداخلية، وقيام المؤامرات الأسرية فى داخل القصر الفرعونى؛ يضاف إلى ذلك الفقر الذى كانت البلاد ترزح تحت عبئه، وبخاصة بعد أن أصبحت معظم ثروة البلاد على مر الأيام فى يد طائفة من كهنة الآلهة العظام، وبخاصة كهنة الإله "آمون" أعظم الآلهة نفوذًا فى تلك الفترة، ولقد وصلت الحال المالية من التدهور فى نهاية عهد هذا الفرعون إلى أن أصبح عاجزًا عن دفع أجور عمال الجبانة، الذين كانوا ينحتون قبره مما أدى إلى إضرابهم، فكانت أول ثورة عمالية عُرفت فى تاريخ العالم.
وقد برهنت الآثار التى تركها لنا أخلاف "رعمسيس" على مقدار فقرهم وعجزهم، ولا أدل على ذلك من أننا نرى معظم مقابر ملوك الأسرة العشرين ومعابدهم الجنازية قد وقف العمل فيها، ولم تتم بعد حتى الآن، فلا غرابة إذن فى أننا لم نعثر على آثار هامة من عهد هؤلاء الملوك من حيث العمارة أو الفتوح الخارجية، اللهم إلا بعض بعوث قام بها "رعمسيس الرابع" إلى "وادى حمامات" لقطع الأحجار من هذه الجهة لإقامة العمائر الدينية، وقد ترك لنا نقوشًا غاية فى الأهمية نستنبط منها حالة البلاد الاجتماعية والدينية، كما خلف لنا بعض نقوش وقصائد دينية تكشف لنا عن أحوال العبادة فى تلك الفترة، وبخاصة عبادة الإله "أوزير" الذى وحد بالنيل الذى تحيا بفيضانه البلاد، وتموت بانخفاضه، ومن ثم أصبح "أوزير" والنيل موحدين، فحياة "أوزير" هى الفيضان، وموته هو القحط. هذا وقد ترك لنا هذا الفرعون بردية تصميم مقبرته، وما وصل إليه المهندسون فى تخطيط العمائر الدينية، وقد خلفه آخرون يحملون نفس الاسم، غير أنه لم يكن لهم من الأمر شيء، ولا نكاد نعرف عنهم أنفسهم إلا بعض حقائق مبهمة، شأن كل الملوك النكرات، ولذلك يكاد يكون تاريخ نهاية الأسرة العشرين قاحلًا مجدبًا بالنسبة لأشخاص الفراعنة، إلا أنه قد عوضنا عن ذلك فيض عظيم من المتون التى عُثر عليها من عهدهم مدونة على جدران المعابد وقطع الإستراكا، أو على إضمامات من البردى.
ومن الغريب المدهش أن المؤرخين الذين كتبوا عن عصر الأسرتين العشرين والواحدة والعشرين يمرون سراعًا على هذه الفترة كأنما لم يكن التاريخ تاريخًا إلا إذا كان يتحدث عن الملوك وأعمالهم، وصفاتهم ومناقبهم، وحركاتهم وسكناتهم.
أما الشعب وطبقاته وحياته وأعماله، وصناعته وفنونه، وما لاقاه أفراده من نعيم أو بؤس فليس بالشيء الذى يستحق الذكر أو يلفت النظر بوجه ما، ومن ثم نجد الخطأ المخزى فى تدوين تاريخ هذه العصور التى لم يكن لملوكها أعمال تُذكر.
وفى الحق يعد المؤرخون مثل هذه الفترات فى تاريخ مصر القديمة فجوة لا يمكن ملؤها، حتى إن المطلع فى أسفار التاريخ عن هذه الحقبة يجد أنها كُتبت فى صحائف معدودات، بل نجد أحيانًا أن ما كُتب عن أحد الملوك لا يشغل أكثر من بضعة أسطر، لقلة المصادر الخاصة بهذا الملك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة