بدايات صلاح عبد الصبور.. شعبان يوسف: لم ينج من السياسة وربح الشعر والمسرح

الإثنين، 23 أغسطس 2021 02:00 م
بدايات صلاح عبد الصبور.. شعبان يوسف: لم ينج من السياسة وربح الشعر والمسرح الشاعر صلاح عبد الصبور
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ننشر مقالة للشاعر والناقد شعبان يوسف عن بدايات الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور (1931 – 1981) والذى ترك وراءه إرثا كبيرا ومهما في الثقافة العربية، 

مرحلة شائكة:

استيقظ المصريون فى أواخر فبراير عام 1954 على استقالة مدويّة من رئيس الجمهورية اللواء أركان حرب محمد نجيب، وبالتحديد فى 25 فبراير، بعد أن تسرب  - عفوا أو قصدا -  الخبر إلى الصحف بالفعل، ونشرته بشكل واسع، مما أدى إلى ارتباكات شديدة ومفاجئة على كافة المستويات الشعبية والعسكرية والسياسية، وتحركت مياه كثيرة كانت كامنة فى النهر، مياه من كل الاتجاهات، وقفزت مرة أخرى قوى سياسية قديمة فى المشهد السياسى لتفرض نفسها فى فرصة شبه أخيرة، تلك القوى الطامحة أو الطامعة فى وأد الثورة، أو تحييدها، أو سرقتها، أو إفسادها، مثلما كانت تسعى "الإخوان المسلمين"، وكانوا يعتبرون أنفسهم شركاء أساسيين فى إنجاز الثورة، وبالتالى ينظرون إلى أنفسهم بأنهم الأحق بقيادة البلاد، وخطف السلطة بكافة الطرق التى يدبرونها بليل أو نهار، واستقطاب عناصر من كل اتجاه حتى يحصلوا على غرضهم الأساسى، وهو الاستيلاء على السلطة بكل مقدراتها، وكانوا يرون بأن هذه الفرصة لا ولن تعوّض مرة أخرى فى المستقبل القريب أو البعيد، لذا تحركوا بشكل واسع لتحريك الأمور جميعها وفى كل اتجاه لصالحهم.

الشاعر صلاح عبد الصبور
 
 كذلك القوى القديمة الممثلة فى حزب الوفد، ذلك الحزب الشعبى الجماهيرى، حزب سعد زغلول وثورة 1919، والذى كان له نضالات واسعة على مدى ثلاثة عقود، قبل أن تفسد قياداته وتنتهى صلاحياتها النضالية والسياسية بشكل عام، وتفشل فى إدارة البلاد بحكمة وحزم وحسم كما كان قديما، وكانت تلك القيادات وفسادها من بين الأسباب التى قامت من أجلها الثورة، كذلك كان الشيوعيون الذين نهضوا بشكل كبير فى عقد الأربعينات، ووضعوا خطوطا استراتيجية عريضة فى برامجهم على المستوى الاجتماعى والوطنى والسياسى والديمقراطى، استفادت منها القيادات الجديدة لثورة 23 يوليو، خاصة فى المجال الاجتماعى، كل هؤلاء الذين أزيحوا بشكل أو بآخر من التمثيل السياسى فى السلطة، حانت لهم الفرصة لتغيير الدفة ناحيتهم، وتحريك المركب فى الاتجاه الذى يخدم أغراضهم، لكن الأزمة الأساسية التى تختفى تحتها أزمات أخرى، أن كل هؤلاء قوى سياسية ليست على وفاق على هدف واحد، أو مختلفة فحسب، بل كلها كانت قوى متناقضة ومتعارضة تماما على المستوى الاجتماعى والسياسى والأيديولوجى، لذا كانت قوى متناحرة ومتصارعة على السلطة، وبالتالى لن تستطيع أن تجمعهم كلمة سواء، أو مظلة واحدة يستطيعون الوقوف تحتها لأى فترة من الزمن، حتى ليوم واحد، لذا كانت إمكانية نجاح الانقضاض ضئيلة، وليست معدومة، ودبر هؤلاء الذين خرجوا من جنّة السلطة مجموعة تظاهرات حاشدة فى مدينة القاهرة، ورفعوا شعارات ساخنة من طراز "محمد نجيب أو الثورة، إلى السجن ياجمال، إلى السجن ياصلاح"، والمقصود جمال عبد الناصر وصلاح سالم، ويكتب الدكتور  عبد العظيم رمضان فى كتابه "عبد الناصر وأزمة مارس 1954 "
 "وفى نفس الوقت كان ضباط الإسكندرية يدلون بأصواتهم فى صف اللواء نجيب، فلم يكد يذاع بيان مجلس الثورة بقبول استقالة نجيب، حتى أبدى ضباط المنطقة الشمالية اعتراضهم على ذلك فى اجتماع عقده معهم حسن ابراهيم فى نادى الضباط موفدا من مجلس إدارة الثورة.."، وبدون استطراد فى سرد الأحداث، تعقدت وتشابكت الأمور للغاية، فتم الرجوع والعزوف عن قبول الاستقالة، بعد أن ذهب ضابطان من الضباط الأحرار، وألقوا القبض على اللواء محمد نجيب بالفعل، كما أنهما سجنوا الحرس الخاص به، وجردوه من كافة الأسلحة، وعندما طلب محمد نجيب التعامل مع التليفون، رفض كمال رفعت أحد الضابطين اللذين قبضا على نجيب.
وعندما تفاقمت الحشود والتظاهرات التى تطالب بعودة محمد نجيب بشكل لا يمكن تغافله أو مواجهته، أو فتح النيران أمامه، بالإضافة إلى تذمر سلاح الفرسان الموالى لخالد محيى الدين أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة البارزين، والمنحاز لمحمد نجيب، كما أن ضباط المنطقة الشمالية أضافوا عبئا إضافيا للأزمة، عند ذلك أبلغ صلاح سالم - وزير الإرشاد القومى وأحد صقور مجلس قيادة الثورة - عبد الناصر بخطورة الموقف، اتفقا على الخضوع للأزمة، والتراجع التكتيكى أمامها، حتى لا تذهب الثورة كلها فى خبر كان، وفى تمام السادسة من مساء يوم 27 فبراير 1954 صدر قرار بعودة محمد نجيب مرة أخرى رئيسا للبلاد، ونشرت الصحف فى الصباح "عودة اللواء محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية البرلمانية"، كما ألحق الخبر برد اللواء محمد نجيب الذى كتب فيه "لقد قبلت رئاسة الجمهورية البرلمانية".
صلاح عبد الصبور
 
حدث هذا فى أربعة أيام فقط، من 23 إلى 27، وتتحدث الأدبيات التى دوّنت تاريخ تلك الأيام عن كمية الأحداث الجمة التى جرت فى تلك الأيام، ولا مجال لذكرها حيث تم سردها على صفحات كتب تاريخية كثيرة، دوّنها شهود عيان وباحثون ومشاركون فى الأحداث، والخلاصة أن محمد نجيب إلى السلطة مرة أخرى، ولكن ما وقر فى القلب قد وقر واستقر، وبعد ظهور أصابع الغدر من أطراف كثيرة، بما فيهم محمد نجيب نفسه، لم يعد الأمر كما كان على الإطلاق، وكان مجلس قيادة الثورة كله على قلق كأن الانقلاب تحته، مع تحريف لفقرة المتنبى الشعرية: "على قلق كأن الريح تحتى، الكل حذر، والكل خائف، والكل لديه خطط جامواجهة وبديلة وجاهزة للتفيذ، والكل منتظر أحداث كبرى وتغييرات وتبديلات، فما حدث كان مقدمة الجولة، تلك المقدمة التى تأخرت كثيرا منذ قيام الثورة، فمن المعروف أن اللواء محمد نجيب لم يكن تاريخيا من الضباط الأحرار، ولكنه اختير فى شهور ما قبل يوليو ، وبعد معركة انتخابات نادى الضباط لكى يكون القائد العام، ورئيس مجلس قيادة الثورة، وتم اختياره وفق معايير معينة، تلك المعايير التى تتعلق بالنزاهة والشرف والشجاعة والوطنية، وعند عرض الأمر عليه، وافق على الفور حاملا رأسه على كفه، وقاد بشجاعة المرحلة الأولى من الثورة، ولم يتردد اسم فى الشهور الثلاثة الأولى سوى اسمه، وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة ينظرون إليه باعتباره الأب الروحى لهم جميعا فى مجلس قيادة الثورة، الذى استلم زمام الأمور فى قيادة البلاد، وظل محمد نجيب هو الوحيد تقريبا حديث الصحف والمجلات والإعلام على المستويات المصرية والعربية والعالمية عموما، هذا الأمر الذى أدى إلى تكريس حالة زعامة مهيبة، تنطوى على ملابسات وشكوك والتباسات حقيقية، ومن علامات تكريس الزعامة أنه كان رئيسا لمجلس قيادة الثورة، والقائد العام للقوات المسلحة، ثم تم توليه رئاسة الوزراء منذ سبتمبر 1952، ثم رئاسة الجمهورية بعد إعلان سقوط الملكية فى 18 يونيو 1953، وأدت عمليات تكريس الزعامة بأنه كان يطلب من مجلس قيادة الثورة المزيد من السلطات له، ولكن المجلس كان متعنتا دائما، ولم يوافق على المزيد من السلطات بأى شكل من الأشكال، وكانت تلك المطالبات المتكررة من نجيب بمزيد من السلطات مثار خلافات حادة ودائمة بينه وبين المجلس، وكان المجلس حاسما وبشكل قاطع فى رفض تلك المطالبات، مما أدى إلى اعتكاف نجيب لأكثر من مرة، وكان اعتكافه الأول فى أكتوبر 1953 من أجل الضغط على المجلس لقبول مطالباته، ولكنه قوبل بالرفض الحاد أيضا، ولكى لا يبدو أن خلافات ما _حسب ماورد فى كتاب فصول من ثورة يوليو للدكتور وحيد رأفت_ أصدر مجلس قيادة الثورة يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1953 نشرة تقول: "شعر السيد رئيس الجمهورية بعد ظهر الأحد 4 أكتوبر بانحراف فى صحته مما استدعى توقيع الكشف الطبى عليه، ووجد أن سيادته يشكو من إجهاد عام استلزم الراحة التامة بالفراش لبضعة أيام، وصحة سيادته فى تحسن مطرد والحمد لله".
وبدون سرد ما هو معروف ومسرود من قبل، أدت تلك المشاحنات بين نجيب والمجلس، إلى الدرجة التى دفعت المجلس لكى يجتمع دونه، واختفاء مواعيد وتفاصيل الاجتماعات، وهذا ما اكتشفه نجيب قبيل إعلان استقالته من كل مناصبه وسلطاته، وبالتحديد فى يوم 23 فبراير 1952، وتم قبول هذه الاستقالة، وتسريبها يوم 25 فبراير، وقيام المظاهرات والاحتجاجات التى ذكرنا سلفا من المناوئين والخصوم والأعداء، ثم الرضوخ لعودة نجيب وإقناعه بالعدول عن الاستقالة، وممارسة سلطاته مرة أخرى من خلال مناصبه المتعددة، وظهور جمال عبد الناصر فى صور مع محمد نجيب وهما يضحكان، وهذا لإعلان أن لا شئ يحدث فى قمة السلطة، وكأنك يادار ما دخلك شر، كما يقول المثل الشائع، وهكذا حسمت الجولة الأولى لصالح محمد نجيب وأنصاره.

كل هذه الأحداث كانت مايشبه الغليان الذى أدى إلى انفجار 6 مارس 1954، حيث أعلن مجلس قيادة الثورة، أن ثمة قرارات على درجة كبيرة من الأهمية سوف تعلن، وحدث بالفعل فى الساعة الواحدة والربع من صباح ذلك اليوم أن انتظر الصحفيون ومراسلو الصحف ووكالات الأنباء المصرية بيانا سوف يصدر عن مجلس قيادة الثورة على قدر كبير من الأهمية والخطورة والحسم، وبالفعل خرج جمال عبد الناصر ليعلن ذلك البيان، والذى قرر فيه عقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر، على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتتكون لها مهام معينة وواضحة المعالم، ومن أهم تلك المهام، مناقشة مشروع الدستور، والقيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذى يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لأحكام الدستور الذى ستقره الجمعية التأسيسية، ولكى تجرى الانتخابات فى جو تسوده الحرية التامة، فإنه تقرر إلغاء الأحكام العرفية السائدة، وإلغاء الرقابة على الصحف والنشر اعتبارا من نفس اليوم، فيما عدا الشئون الخاصة بالدفاع الوطنى، ولم يفوّت الصحفيون الفرصة لكى يسألوا جمال عبد الناصر الذى أخذ على عاتقه قيادة البلاد بشكل فعلى وحاسم منذ تلك اللحظة التى كانت تهدد كل ما أنجزوه بالزوال، كان السؤال حول الأحزاب، وكان رده: "إن تنظيم الأحزاب سيكون متوقفا على الدستور الجديد الذى ستبت فيه الجمعية التأسيسية، وإن الشعب نفسه هو الذى سينتخب الجمعية"، وحول سؤال آخر عن المعتقلين السياسيين، جاء رده: "سوف يتم الإفراج عمن لا تثبت ضده تهمة من المعتقلين، وإن جميع القوانين التى صدرت فى غيبة البرلمان سوف تعرض على الجمعية التأسيسية، كما ورد فى كتاب "عشرون يوما هزّت مصر" للأستاذ كرم شلبى، وكان السؤال الأهم فى ذلك السياق هو عن وضع مجلس قيادة الثورة بعد انتخاب البرلمان الجديد، فكان رد جمال عبد الناصر "لقد أصبحنا رجال سياسة، ويجب أن يبعد الجيش عن السياسة، ولذلك فإننا سنتنحى عن مراكزنا فى الجيش"، وهكذا دار الحوار الأخطر فى لحظة محورية من تاريخ ثورة وسلطة يوليو، وبدأ بعدها حوار صحفى وسياسى ومجتمعى، شاركت فيه أقلام وعقول ومؤسسات ومفكرون من كافة التيارات والاتجاهات، وذلك حتى 27 مارس، وكانت قد احتدمت مرة أخرى الخلافات بين نجيب ومجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر شخصيا، وبهذا أسدل الستار تماما على كل ماتم التصريح به، وكان المجلس بالقيادة الفعلية لجمال عبد الناصر قد اكتسب خبرة عميقة من الأحداث السابقة، إذ تمت إزاحة الرئيس محمد نجيب عن الرئاسة بالتدريج دون إراقة قطرة دم واحدة، لكى يحل محله جمال عبد الناصر رئيسا للبلد، وزعيما فعليا لثورة يوليو، مع العلم أن المعركة التى دارت بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، لم تكن معركة ذات طابع فردى، ولكنها كانت ذات طابع سياسى، ولها أعوان على الجانبين، فكان محمد نجيب يتحرك بدعم من كافة القوى القديمة والرجعية، فى مواجهة مجلس قيادة الثورة الذى يمثّل التغيير الجذرى فى البلاد.

صلاح

 
القصيدة الأزمة:

لماذ نسرد كل تلك الأحداث فى سياق مخصص للشاعر الشاب صلاح الدين عبد الصبور، وذلك ما سنوضحه لاحقا، ففى الفترة من 6 مارس حتى 26 مارس، خاض كتّاب ومفكرون وساسة وصحفيون تجربة ممارسة الحرية فى أعلى صورها، وكتب لويس عوض ومحمد مندور وخالد محمد خالد وأحمد بهاء الدين وخالد محيى الدين ووحيد رأفت وإحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح وغيرهم من عقول مصر، وطرحوا أفكارا كثيرة قابلة للتحقيق، ولكن بعد إسدال الستار على التجربة فى 28 مارس 1954، وسحب كل ما تم إعلانه فى 6مارس، توقف كل هؤلاء عن الكتابة وطرح الأفكار، كأن سحرية ماكينة جاءت لتسكت الجميع دفعة واحدة، وفى تلك الأثناء تسللت قصيدة لشاعر طليعى شاب اسمه محمد صلاح الدين عبد الصبور، وكان عنوان القصيدة "عودة ذى الوجه الكئيب"، ولم يتردد كل من قرأها فى إدراك وحسم مقصدها ومغزاها، وأيقن الجميع أن المقصود بالوجه الكئيب هو جمال عبد الناصر نفسه، والتى أتى مطلعها هكذا:
(هل عاد ذو الوجه الكئيب؟
ذو النظرة البكماء والأنف المقوس والندوب
هل عاد ذو الظفر الخضيب
ذو المشية التيّاهة الخيلاء تنقر فى الدروب
لحنا من الإذلال والكذب المرقش والنعيب
ومدينتى معقودة الزنار 
عمياء ترقص فى الظلام
ويصفّر الدجال والقواد والقراد والحاوى الطروب
فى عرس ذى الوجه الكئيب.)
كانت هذه القصيدة الواضحة والفادحة فى معانيها ومراميها بمثابة إعلان حاد عن وجود شاعر جديد ذى ملامح حادة وغاضبة وحزينة، ولكنه يتمتع بثقافة واسعة، كان صلاح عبد الصبور قد نشر بعضا من قصائده الأولى فى مجلة الثقافة لأحمد أمين، ولكنها لم تكن قد نضجت بعد، ولم يكن قد التحق بقطار القصيدة الحديثة التى انتشرت فى العراق على أيدى الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتى، كانت تجربة هؤلاء الشعراء العراقيين فى مطلع عقد الخمسينات بعيدة إلى حد بعيد عن مناخ الشعر فى مصر، إذ كان شاعر مصرى شاب فى الثلاثين من عمره، ينتمى إلى تيار اليسار، قد كتب قصيدة طويلة أحدثت دويّا كبيرا فى الحركة الشعرية والثقافية والسياسية على حد سواء، الشاعر كان اسمه عبد الرحمن الشرقاوى، والقصيدة كانت "رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان"، وترددت القصيدة بشكل واسع لأسباب سياسية أولا، ولكن فنيّة القصيدة جعل منها منشورا شعريا واسع الانتشار، لذلك كان الشعراء يتبارون فى كتابة القصيدة السياسية فى ذلك الوقت، مثل الشاعر كمال عبد الحليم، والذى كان كان جواز مروره الأول، ومجده العظيم، يتلخص فى أن رئيس الوزراء اسماعيل صدقى وجّه لوما شديدا وهو يلوّح بقصيدة يمسكها فى قبضة يده كأنها جسم الجريمة، إلى أعضاء البرلمان عام 1946 لوجود مثل هؤلاء الشعراء، وكانت تلك الواقعة بمثابة حدث كبير ذى صوت حاد، وبالتالى كان صلاح الدين عبد الصبور متأثرا بشكل ما بتلك الأجواء، وكان قد عرف الطريق إلى مجلة الآداب عبر أستاذه الناقد أنور المعداوى، والذى نشر لهتلك القصيدة الحادة فى شهر يونيو 1954، بذلك العنوان الصادم والمثير.
أقول لكم
 
كانت القصيدة ذات صوت حاد، ولا يستطيع أحد فهمها دون إحالتها إلى الوضع السياسى الذى كان يهيمن على البلاد، وانتصار جمال عبد الناصر فى الإمساك بزمان الأمور، وهيمنته شبه الكاملة على كافة مقاليد السلطة، وتصفية كل الموالين لمحمد نجيب وإبعاد آخرين عن مراكز التأثير مثل خالد محيى الدين الذى أعلن انحيازه لمحمد نجيب والديمقرطية، ليسا باعتبارهما نظائر أو أشباه، ولكنه كان يعتبر إن استبعاد محمد نجيب عن السلطة، سيفسد عملية الديمقراطية التى لا بد أن تتحقق بالتدريج مهما كان الاختلاف بين الخصوم، لذلك اختلفت أفكاره عن أفكار مجلس قيادة الثورة الذى ينتمى له، فتم استبعاده خارج البلاد، ليعمل سفيرا لمصر، وهذا كان نفيا مقنّعا، سرعان ماعاد فى عام 1956 ليرأس مجلس إدارة وتحرير جريدة المساء التى صدرت فى 6 أكتوبر عام 1956.
لا نستطيع أن نقول بأن قصيدة "عودة ذى الوجه الكئيب" انبثقت عن نزق سياسى أو فكرى أو حتى وجودى لشاعر شاب، لا ينتمى إلى اليسار أو إلى اليمين، ولكنه كان كمثل جميع المثقفين يشعر بنوع من التمرد، ولا يجيد أى حسابات سياسية، ورغم أن الجميع بدون استثناء فى مصر آنذاك تجاهلوا الكتابة عن القصيدة، حتى بعد أن نشرت فى ديوان الشاعر الأول "الناس فى بلادى" 1957، وتخفيف حدة العنوان، فتم إضافة جملة تفسيرية مفتعلة ليصير العنوان: "عودة ذى الوجه الكئيب إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار"، إلا أن القصيدة فى اعتقادى كانت إحدى القصائد الرائدة فى الشعر الجديد ذى الطابع السياسى، فلم تكن مباشرة أو هاتفة مثل قصيدة "من أب مصرى" لعبد الرحمن الشرقاوى، ولم تكن مغلقة تماما حتى لا يظهر مرماها السياسى، بالإضافة إلى التقنيات التى بدأت تظهر فى تجربة عبد الصبور، الإيقاع السريع، الجملة الشعرية المكتنزة بحمولات تتجاوز اللفظ، إذ كان قبل هذه القصيدة غارقا فى القصائد العمودية ثقيلة الظل غائمة المعانى، مثل قصيدته "غزلية"، والتى نشرت فى الطبعة الأولى لديوانه الأول، ولكنها لم تعد بعد ذلك مطلقا، فلم ينشرها فى أى من الطبعات التالية، ولذا فهى قصيدة مجهولة تماما لمن لم يقرأوا الطبعة الأولى من الديوان، إذ يبدأ تلك القصيدة المتواضعة بقوله:
(يانعم لو أغفى على ساعدى
المشرق الحلو، وأرخى الوشاح
يانعم لو يأوى إلى أضلعى
النهد، أو يلقى إلىّ النجاح
يانعم لو أهديتنى قبلة
أو اعتنقنا خلف الجدار
يانعم لو نأوى إلى غرفتى
نغفو بها حتى يلوح النهار).
إذن قصيدة عودة ذى الوجه الكئيب، وهى التى تتوسط تاريخيا تلك القصيدة العمودية "غزلية"، وغالبية قصائد الديوان التى جاءت بعد ذلك، وهى التى نستطيع أن نقبض على ملامح التجربة الصبورية بوضوح، وربما يكون النقاد الذين تعاملوا معها بشكل عابر، تفادوها للأسباب السياسية الكامنة والواضحة أيضا بداخلها، واعتبروها من القصائد المباشرة للشاعر، وهى غير ذلك، فالبحث عن ملامح مصرية عند صلاح عبد الصبور بدأت مع هذه القصيدة النموذج، ويتضح ذلك عندما يستدعى أباالهول بإلحاح، ذلك الكائن الغامض والملغز فى آن واحد، عندما سأل عن "من خالق الدنيا"
(وعوى أبو الهول المخيف، وقلّب الوجه الكئيب إلى اليسار
ورمى بجمع الملتحين إلى الدمار
والأمردون تأملوا، وأجاب رائدهم بصوت مستفيض
لا نستطيع! بل نحن نعرف، إنه قدم الطبيعة.."
هنا بالطبع ترمز القصيدة إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين رماهم إلى الدمار، كذلك كشّر أنيابه نحو اليسار، وينهى القصيدة ب:
(سيظل ذو الوجه الكئيب وأنفه ونيوبه..
وخطاه تنقر فى حوائطنا الخراب
إلا إذا ..
إلا إذا مات
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقا بمايلقيه من عفن على وجه السماء
فى ذلك اليوم الحبيب
ومدينتى معقودة الزنار مبصرة سترقص فى غباء
فى موت ذى الوجه الكئيب).
 
محمود أمين العالم 1955
 
كان عبد الصبور شابا غاضبا إلى حد بعيد كما وصفه أقرانه وأصدقاؤه فى ذلك الزمان، وكان أحد جلّاّس الناقد العلامة والاستثنائى والمفكر الأدبى أنور المعداوى على مقهى عبد الله بالجيزة، وكان يجلس معهم أعلام ذلك العصر مثل الشاعر والناقد الدكتور عبد القادر القط، والفنان والكاتب الشعبى زكريا الحجاوى، والقاص الشاب محمود السعدنى، والشاعر نجيب سرور وغيرهم من الشباب الجديد فى الحركة الأدبية والثقافية والشعرية المصرية، وكان صلاح يثير مناقشات هادئة مع كل هؤلاء، ولم يكن اتجاه أو تيار سياسى يجمعهم، ولا فلسفة تحدد ملامح موحدة لهمن ولكن الثقافة المتنوعة تجمعهم، وكان صلاح عبد الصبور رغم حداثة سنّه بينهم، مشغولا بأمور الفلسفة، وأسرار الكون، والثقافة الانجليزية، وغربلة التراث العربى بعد قراءته قراءة فاحصة، وحدثت بعض تقاطعات خفيفة بينه وبين التيارات السياسية السائدة آنذاك من الخارج، أى أنه لم يندرج فى أى تنظيم سياسى على الإطلاق، ولم يمارس العمل السياسى بأى شكل من الأشكال فى ذلك الوقت، ولكن ثقافته وبعض احتكاكه الطفيف بالحياة السياسية، وتفاقم الأحداث فى مارس 1954 دفعه إلى كتابة تلك القصيدة الأزمة، تلك القصيدة التى تعامل معها النقاد على أنها نتوء شاذ نما فى تجربة صلاح عبد الصبور الشعرية من الزوايا الفنية والسياسية والفكرية. بينما القصيدة كانت وماتزال فى متن التجربة الشعرية لصلاح عبد الصبور، وكانت ومازالت مفتاحا أساسيا فى تجربته الثرية التى امتدت إلى ثلاثين عاما، هم عمر صلاح عبد الصبور الشعرى والثقافى، وسنجد أن ظلال هذه القصيدة تسللت إلى مسرحه الشعرى الذى بدأه فى منتصف الستينات، لما تحمله القصيدة من أبعاد درامية، وعناصر صراع واضحة ومستترة.
 
الناس فى
 
لم يكن حال الشعر فى تلك المرحلة الأولى من ثورة يوليو، مثل حال الرواية والقصة القصيرة، حيث أن الشعر كانت تجتاحه تغييرات جذرية واضحة، ودارت حوله معارك ضارية، بين يمين ويسار ومعتدل_إذا صحّ ذلك التأويل فى الأدب_، ووجدنا فرسانا جددا فى الشعر ينادون بالتخلى عن عمود الشعر، منهم فوزى العنتيل، ومحمد مفتاح الفيتورى ونجيب سرور وكيلانى حسن سند وغيرهم، وعلى مستوى شعر العامية كان صلاح جاهين وفؤاد حداد_حصريا_ يحققان فتوحات واضحة على جبهة الشعر، وينشران إبداعاتهما فى مجلات وصحف اليسار مثل صحيفتى الملايين والكاتب التى كان يصدرها يوسف حلمى، والذى خصّه صلاح جاهين بقصيدة رثاء عظيمة عند رحيله، وعلى الضفة الأخرى كان أصحاب النظرية القديمة فى الشعر يخوضان حربا شرسة ضد الشعر الجديد، وعلى رئس هؤلاء كان العقاد وحواريوه لا يتركان فرصة واحدة من أجل التسخيف والتحقير والتجهيل والتنكيل بهؤلاء الشعراء الجدد وشعرهم، وبرز صلاح عبد الصبور فى تلك المعركة كأحد فرسان الشعر الكبار رغم أنه الأصغر سنّا، حيث أن حجازى كان مايزال يكتب القصيدة العمودية فى ذلك الوقت، وقد بدأ يجرّب قصيدة التفعيلة أو الحرة منذ عام 1956، ولكن عبد الصبور كان قد خاض غمار تجربة الشعر الحر منذ عام 1954، وقصيدة عودة ذى الوجه الكئيب كانت علامة فنيّة فارقة فى تجربة صلاح عبد الصبور، رغم ذلك التخلى عنها كإبنة غير شرعية، ولكنها الإبنة الأذكى والأقوى والأجمل، تخلّى عنها عبد الصبور من الناحية الشكلية لأسباب سياسية، ولكنها كانت الأكثر حضورا فى تجربته، وكانت العلامة التى يشار إليها دائما_همسا_،  أكثر من أى إنجاز آخر فى تجربة صلاح عبد الصبور، ولكن الجميع تخلّى عنها _فى العلن_ خوفا من بعدها السياسى الواضح، وهكذا ظلّت قصيدة خارجة عن القانون السائد، حتى عادت فيما بعد رحيل صلاح عبد الصبور نفسه، إذ أن الطبعة الثانية التى صدرت عام 1962 فى القاهرة عن دار المعرفة، لم تتضمن القصيدة، وكأنها لم تكن، وفى المقال الذى كتبه سليمان فياض فى مجلة إبداع، أشار إلى أن العدد الذى نشرت فيه القصيدة من مجلة الآداب، تم سحبه من السوق بأمر مباشر من جمال عبد الناصر، وذلك سبّب إزعاجا لسهيل إدريس رئيس تحرير المجلة.

البداية الأخرى لصلاح عبد الصبور:

 ولكن المهم فى هذا الأمر، أن صلاح عبد الصبور بدأ يلفت الأنظار، ليس بسبب هذه القصيدة فقط، ولكن كانت مساهماته الشعرية والنقدية المحدودة النشر تقرأ بعناية فائقة، وفى العدد المهم الذى صدر فى يناير 1955 من مجلة الآداب، والذى تم تخصيصه بأكمله عن الشعر الحديث، كان صلاح عبد الصبور هو الشاعر الوحيد من مصر الذى اختارته أسرة تحرير المجلة فى الملف الذى أعدته تحت عنوان : "مستقبل الشعر العربى الوحيد_ الآداب تستفتى"، وكانت شهادة صلاح هى أولى مشاركاته الجادة فى الحياة الشعرية العربية، إذ بدأ شهادته بقوله: "ورث الشعر العربى مواضعات كثيرة أصبحت مع الزمن هى الجوهر، وأصبح غيرها مما هو جوهر كل شعر عرضا، والعرب فى ماضيهم لم ينظروا إلى الشعر نظرة منصفة كفن، ولعلهم عدوه صنعة من لا صنعة له، وذريعة من اللفظ يستدر بها المعروف، وتقضى بها الحوائج، أو خلالا تسن ليعرف بها بناة العلا كيف تؤتى المكارم، فكان تصنيف الأغراض المأثورة نتيجة لذلك، وتقدّم غرض وتأخر ثان، وأصبح الغزل مثلا مقدمة بين يدى المدح، وقد نشأ الشعر العربى كما ينشأ كل شعر انسانيا، ذاتيا، مؤديا لدور، حتى مال به الأعشى أو النابغة إلى التكسب، وكان المجتمع الإسلامى من بعد مجتمعا منفصما، عواصمه تحيا فى شغل عن باديته، وأهل العواصم عرب وموال أو سادة وأتباع مع اختلاف صور العبودبة على مر القرون، ولم يعرف المجتمع العربى الثورات الطبقية إلا نادرا، والشعراء العرب دائرون فى كل فلك، قلما يختصون أنفسهم محاولين أن يتعمقوها أو يشملون الناس بالنظرة العاطفية الموجهة..".
من الواضح فى هذه الشهاد للشاب صلاح الدين عبد الصبور، والذى لم يصل عمره إلى أربعة وعشرين عاما، أنه مدجج بالمعرفة والرؤية والأفكار والطموح والتمرد، إذ أنه طرح بعض هواجسه المتعلقة بالتراث العربى فى الشعر، للدرجة التى _فى استطراده فى الشهادة قال بأن العرب أفسدوا اللغة العربية، وجعلوا منها مادة للترف، وأداة طقوسية وشعائرية، وفقيرة جدا فى الإبداع والمغامرة، وفى هذا الشأن ومن المدهش أن عبد الصبور فى تلك الشهادة أشاد بالشعر العامى، والفلكلور الذى لا يلتزم بأى غرض سوى التعبير الخالص عن الذات الجمعية "القومية"، واسترشد بما تقوله جامعة القطن الفلاحة فى الحقل:
"ياقطن ياقطن سارحة لك بلا نيّة
م الصبح، للضهر، للمغرب موطية
تعالى يامّه خدينى من بلاد الناس
لا خولى يرحم ولا ملاية زى الناس".
لذلك اتهم عبد الصبور الشعر العربى بأنه شعر تعقيلى، يسلب التجربة أروع مافيها، ويفسد انفعالياتها ومثالياتها، ويرتبط بالدلالات القريبة للألفاظ، كأن الشاعر العربى يخشى أن يطير فيخونه جناحه، أما الشعر العامى فهو شعر محلّق، لا تثنيه مواضعه ولا يلتزم مجالا عقليا.
الطبعة الثانية فى مصر 1962 بدون قصيدة عودة ذى الوجه الكئيب
 
ولا أريد أن أستطرد فى شهادة صلاح عبد الصبور التى لم تنشر فى أى مصدر فيما بعد، لكنى أستدل من خلالها على تمرد عبد الصبور الواضح والجذرى على التراث الرسمى والمعلن للشعر العربى، وربما كان هذا التمرد صدى لصرخة لويس عوض فى مقدمة ديوانه الوحيد "بلوتلاند" الذى صدر عام 1947، وطالب فيه بتحطيم عمود الشعر العربى، بعد أن أعلن وفاته منذ عشرة قرون مضت، ولم تقم له قومة مرة أخرى، ولكن رؤية عبد الصبور جاءت أكثر تفصيلا من لويس عوض، لأن الأخير كان مشغولا بقضايا كثيرة أخرى، فلم يتفرّغ للاستطراد فى وجهة نظره، وجاءت مقدمته بمثابة الطلقة الأولى التى تنبّه لها شاعران أصبحا من أهم الشعراء المصريين، وهما صلاح جاهين فى العامية، وصلاح عبد الصبور فى الفصحى، وقدما ما لم يستطع لويس عوض نفسه تقديمه فى الشعر، ولكنه اكتفى بإعلان صرخته الأولى، والملمح المهم فى شهادة عبد الصبور المبكرة، أنه كان يبحث عن قصيدة مصرية لم تكتب من قبل، قصيدة تخلو من الزخرف والألفاظ الرنانة والتعبيرات المجازية والتطريب المفتعل والوظيفى، وما استشهاده بالشعر العامى أو الشعبى أو الفلكلورى، إلا بشعوره بأن هذا الشعر لم يلتزم أو يخضع للأطر الرسمية التى كانت تناسب المحافل العربية الرسمية أو الدينية أو الاجتماعية، لذا كان عبد الصبور يبحث عن قصيدة خارج الأروقة الرسمية المفتعلة، كما أنه كان يريد قصيدة مصرية أصيلة ذات طابع عربى ولغة عربية جديدة، وهذا ما اتضحت كافة تضاريسه فى ديوانه الأول "الناس فى بلادى" 1957، وفى تجربته كلها فيما بعد.

التمأسس:

بعد أن استقرّت الدولة المصرية، والسلطة الناصرية فى الحكم، وتخلّصت من التيارات المناوئة والمثيرة للقلق مثل جماعة الأخوان المسلمين الطامعة فى مزاحمة الضباط فى السلطة بعد حادث محاولة اعتيال جمال عبد الناصر فى أكتوبر 1954، والمعروف بحادثة المنشية، وكانت جماعة الأخوان التى اعتبرت نفسها الشريك الأساسى فى إنجاز الثورة، ولذلك كانت تطالب بالمشاركة فى السلطة، وكان حسن الهضيبى يطلق البيانات كأنه أحد قيادات الثورة الفعليين، وربما لم يشأ جمال عبد الناصر تقرير الصدام معهم منذ البداية، بل أعطاهم "منديل الأمان" فى البداية ومنذ الأسابيع الأولى بعد قيام الثورة، وأعلن إعادة فتح التحقيقات مرة أخرى فى قضية اغتيال حسن البنا، وقام بزيارة رسمية لقبره مع شقيقه عبد الرحمن البنا، ونشرت صورة ناصر وهو يقرأ الفاتحة على قبر البنا على أغلفة المجلات، وفى صدارة الصحف، وكان سيد قطب "عضو مكتب الإرشاد" ينشر مقالاته النارية فى مجلة روز اليوسف، وتولى مناصب ذات شأن آنذاك، وكان موعودا فى المستقبل بتولى وزارة التربية والتعليم أو المعارف، كل ذلك أعطى جماعة الأخوان أملا كبيرا فى اعتلاء السلطة، وذلك لتمرير مشروع حلم الخلافة الذى كان مايزال يراود المتطرفين منذ سقوط تلك الخلافة فى تركيا عام 1924 بعد إعلان ذلك على يد مصطفى كمال أتاتورك، وانطلقت حملة حماس آنذاك من شيوخ الأزهر لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، والإعلان عن مؤتمر إسلامى كبير لتحقيق ذلك التنصيب، وتم دعوة شيخ شاب سيكون له شأن كبير فى إفساد مشروع الخلافة، وهو الشيخ على عبد الرازق، والذى قدّم بحثه ونشره وقال فيه بأن لا توجد أى شواهد فى القرآن أو السنة على وجود مايسمى بالخلافة الإسلامية، وما الخلافة إلا الاختراع السحرى للحكام العرب على مرّ التاريخ لكى يستطيعوا أن يحكموا قبضتهم على الشعوب، فالخليفة فى ظنّ هؤلاء الحكام، هو ظلّ الله على الأرض، بل خليفته، وقداسته مستمدة من قداسة الله، وهكذا تحول الأمر إلى معركة ضارية وشرسة، وطار فيها أربعة وزراء، وتم محاكمة الشيخ الشاب، وفصله من وظيفته وإلى آخر القصة المعروفة والمشهورة تاريخيا، وصمتت الأفواه بعد ذلك، حتى أتت جماعة الأخوان فى 1928 لتعيد الفكرة مرة أخرى، مجرد فكرة، ولكن الفكرة وجدت لنفسها سلما لتصعده فى ثورة يوليو، ولكن دهاء الحاكم الذى دبر كل خطوات الثورة، أفسد عليهم ذلك الحلم، وبدد جمعهم، وأدخل عددا كبيرا منهم السجون، وتم الحكم على سبعة منهم بالإعدام، منهم المرشد العام حسن الهضيبى، الذى تم تخفيف الحكم بالمؤبد، ثم بالإفراج عنهم، ولكن تم إعدام ستة أعضاء بالفعل، على رأسهم عبد القادر عودة.
أقول
 
وبعد إقصاء جماعة الإخوان، تم إسكات القوى المناوئة الأخرى بطرق تتراوح بين العنف والسلم، خلا الأمر للسلطة التى لا شك أنها سلطة وطنية دون أى لبس، ولا ولاء عندها إلا لمصر، ولا أحلام عامة إلا لصالح مصر، حتى لو اختلفت الأمور فيما بعد، وبالفعل بدأت آنذاك تلك السلطة فورا فى التخطيط لبناء دولة، وكانت الصحافة والثقافة والفنون بجانب الزراعة والصناعة والسياسة الخرجية على رأس دعامات تلك الدولة، والحديث فى ذلك الأمر يطول، وهو تاريخ منصوص عليه فى مذكرات رجال الثورة وكل المشاركين فى ذلك الحلم الثقافى والفنى الذى تحققت منه وفيه مساحات كثيرة، وكان من بين الإجراءات التى اتخذها المسئولون هو الاهتمام والرعاية والدأب فى إنشاء مؤسسات صحافية وثقافية، وبالتالى كانت هذه المؤسسات تحتاج إلى كتّاب ومثقفين ومبدعين وصحافيين، وبالتالى توّسعت الدولة فى إنشاء مؤسسات صحافية، فكان فى مستهل الثورة مجلة التحرير، والتى تعاون فى إدارتها وتحريرها وإخراجها الفنى فنانون وكتاب يساريون مثل حسن فؤاد أحد أهم الفنانين ومصممى الصحف والمجلات فى مصر، لذلك كان يكتب فى المجلة يوسف ادريس وعلى الدالى وغيرهم، كما تم إنشاء صحيفة الجمهورية، وتم تكليف وتعيين كتّاب ونجوم الثقافة والأدب فى ذلك الوقت، كما كانت مجلة روز اليوسف _قبل التأميم_ خليّة للكتّاب الطليعيين واليساريين، فكان فيها صلاح حافظ ولطفى الخولى ويوسف ادريس وأحمد بهاء الدين وسعاد زهير وغيرهم.
وبعد استتباب الأمر، واطمئنان الدولة واستقرارها، وحصلت بجدارة على تأييد اليسار، وانحياز ذلك اليسار لكافة الأبعاد الوطنية والاجتماعية، وكان صلاح جاهين ابن اليسار أحد منشدى منجزات وأحلام الثورة، وكتب فؤاد حداد ديوان "حنبنى السد"، وفى تلك الأثناء تأسست مجلة صباح الخير المنبثقة عن مؤسسة روز اليوسف، واختارت المؤسسة شابا مثقفا محبوبا نشيطا موهوبا لدرجة العبقرية، كان هذا الشاب هو أحمد بهاء الدين، الذى خبر الصحافة وخبرته، وصال وجال فى كافة موادها وأروقتها، ولم يكن بهاء الدين صحفيا فحسب، بل كان قد جرّب كتابة الشعر والنقد الأدبى منذ أن كان يدير تحرير مجلة "الفصول" فى أواخر عقد الأربعينات، معاونا لرئيس تحريرها_غير المتفرغ_ محمد زكى عبد القادر، وبالأحرى لم يكن بهاء الدين معاونا فقط، بل كان قائما بتحرير المجلة من الألف إلى الياء، حيث أن زكى عبد القادر كان مشغولا بعضويته فى البرلمان، كما أنه كان يكتب فى، ويدير تحرير جريدة الأهرام، فكانت مجلة الفصول خير مجال لاكتساب خبرة واسعة وعميقة وعملية فى مجال الصحافة، حتى التحق بمجلة روز اليوسف فى مايو 1952، وبرزاسمه بكثافة، لذا اختارته السيدة فاطمة اليوسف رئيسة مجلس إدارة المؤسسة، وابنها إحسان رئيس تحرير المجلة، أن يكون بهاء هو أول رئيس تحرير ومؤسس المجلة الشابة الجديدة "صباح الخير"، وبدأ الإعداد للمجلة، وتم استقطاب كوكبة من المبدعين والكتّاب ورسامى الكاريكاتير، مثل محمود أمين العالم ومحمد عودة وصلاح جاهين وأحمد عباس صالح ومصطفى محمود وحسن فؤاد ومحمد صدقى وغيرهم، وكان صلاح عبد الصبور ضمن هذه الكتيبة الشابة، وبالفعل صدر العدد الأول فى 12 يناير 1956.
عمل صلاح عبدالصبور فى التحرير والترجمة منذ أول عدد، وكانت تنشر له ترجمات دون إدراج اسمه فى البداية، ثم بدأ يكتب فى النقد الصحفى بعد ذلك، وانخرط فى العمل الصحفى بشكل كبير، وكانت له مقالات بديعة، تلك المقالات التى أغفلها الأستاذ أحمد صليحة عندما جمع له إنتاجه كله، ونشره فى أحد عشر مجلدا صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعد رحيل عبد الصبور، وهذا جهد محمود، ولأن إنتاج صلاح كان غزيرا، فلا بد أن تسقط منه مساحات مجهولة فى الصحف والمجلات المترامية التى كان يكتب فيها، وكل هذا قبل وجود الأرشيف الألكترونى الذى وفّر جهودا طائلة على الباحثين.
أول مقال ينشر عن الناس فى بلادى لمحمود امين العالم
 
كان صلاح عبد الصبور مشغولا فى تلك الفترة بتأصيل الهوية المصرية على المستوى الفنى الشعرى والثقافى، وكانت كتاباته تنحو بشكل بارز فى هذا المضمار، وكان ضمن ما نشره مقال عنوانه "الشعب يتقدم المفكرين"، نشره بتاريخ 20 سبتمبر 1956، وبدأ المقال بفكرة عامة قال فيها "وراء كل ثورة أفكار تدفعها، وتمهد لها، وقد يحمل هذه الأفكار زعيم الثورة أو زعماؤها، وقد تحملها جماعة من الناس ولكن هذه الأفكار تكون دائما نابعة من عصرها، وقد تكون خطة إصلاحية غامضة تتضح خلال العمل الثورى، أو بعد نجاح هذه الثورة.."، ويستطرد صلاح حتى يطرح فكرة أخرى لامعة "وكثيرا ما يكون فشل الثورات هو نجاحها، إذ يتحقق كثير مما عجزت الثورة عنه، وتكون الثورة هى الهزة العميقة التى أنضجت القيم الجديدة، أو التى مهدت لطبقة نامية أن تأخذ دور البطولة، ولطبقة متخلفة أن تتأخر إلى خلف المسرح أو إلى مقاعد المتفرجين..".
المقال كان بشكل خاص يتحدث عن الثورة العرابية، والتى انكسرت مراميها على صخرة الخونى والانجليز، ولكن أهدافها بقيت تنتج حالمين ومثقفين ومبدعين ومفكرين كبارا، من طراز الشيخ محمد عبده، وفارس القلم محمود سامى البارودى، والشاعر عبدالله نديم الملقب ب "خطيب الثورة"، تلك الثورة التى فشل قادتها فى امتلاك زمان البلاد، ولكنهم حرضوا الأمة كلها على إبداع قادة آخرين، وتيارات ثقافية موارة، وكان عبد الله نديم وحده أمة، ولم تكن أصوله من كبار القوم، ولا من بيوتاتالوجاهة، بل كان شاعرا شعبيا يعمل تلغرافجيا فى قصر إحدى الأميرات، ثم طرد من ذلك القصر، فعمل صاحب مدرسة وتاجرا وشاعرا جوالا وصحافيا، ثم أدرك وهو وسط الناس أن رسالته الحقيقية أن يكون ثوريا، فطاف مع الثوار فى كل مكان، حتى أصبح زعيما فعليا، ومن ثم خلد اسمه فى الذاكرة الشعبية حتى الآن، رغم أنه كان ابنا لثورة انكسرت مراميها، ولا أقول فاشلة مثلما قال عبد الصبور، ولكنه _أى عبد الصبور_ أراد أن يبلغنا: لا فشل لثورة صادقة، حتى لو اندثر كل قادتها، وسوف تظل أفكارها مشتعلة حتى تتحقق، وهذا كان غرض صلاح عبد الصبور من المقال النموذج، ثم من سلسلة المقالات والتى استفاض فيها فيما بعد، لتصبح كتابا مهما تحت عنوان "قصة الضمير المصرى"، وهذه الكتابة كانت مقدمة لكتابات كثيرة دسمة لصلاح فى تلك المرحلة الأولى لانخراطه فى العمل الصحفى.
الأعمال الكاملة
 
ورغم أن صلاحا كان قد انخرط فى العمل الصحفى بشكل واسع، إلا أنه كان منخرطا كذلك فى النشاط الأدبى العام بشكل مكثف، فساهم فى تأسيس الجمعية الأدبية مع رفاق له، لا يجمعهم تيار سياسى ولا أيديولوجى، ولكن تجمعهم ثقافة واسعة وعميقة ورفيعة المستوى، إذ ضمت تلك الجمعية د عز الدين اسماعيل ود. عبد الغفار مكاوى وفاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمى وأحمد كمال زكى وآخرين، وكانت الجمعية تعقد ندوة أسبوعية لمناقشة كل الأمور المستجدة فى الثقافة والإبداع، وأصدرت الجمعية بضعة كتب قليلة، لكن نشاطها كان يتغلغل فى عدد من المجلات والصحف والأنشطة الأدبية، وظهرت قصائد لصلاح عبد الصبور فى مجلة الآداب، كان يكتب تحت توقيعه "عضو الجمعية الأدبية"، وكان أعضاء الجمعية يكتبون بشكل منتظم فى مجلة "الأدب" التى كانت تصدر عن جماعة "الأمناء" بريادة الدكتور أمين الخولى، وظهر العدد الأول من المجلة فى مارس 1956، وفى العدد ظهرت ترجمة وتلخيص لصلاح عبد الصبور، لكتاب "اتجاهات فى الرواية" تأليف ستيفن سبندر، وفى العدد الثانى فى أبريل كتب مقالا عن مسرحية "هاملت" التى قام بعرضها بعض الهواة فى إحدى الكليات، وفى العدد الرابع ظهرت قصيدته "نام فى سلام"، والتى نشرها فى ديوانه الأول، هذه القصيدة لم تأخذ حقها فى قراءة عادلة مثل القصائد التى اشتهرت لأسباب وجودية أو سياسية، مثل قصيدة "الناس فى بلادى"، وقصيدة "شنق زهران"، لأنها كتبت فى ظل الأجواء التى كانت قبل العدوان الثلاثى على مصر، وكان الجو ساخنا، يحتاج إلى كتابات محرضة، وكتب كثيرون عن "شنق زهران" باعتبارها قصيدة ملهمة ومحرّضة وباحثة عن هوية المقاومة عند المصريين، ولم تكن سوى حادثة دنشواى هى التى تعمل على الكراهية المطلقة للاستعمار، ولو كان الظرف مختلفا، لكانت القصيدة أخذت مسارا آخر.

الناس فى بلادى علامة وتأسيس قصيدة مصرية عربية:

ظهر ديوان "الناس فى بلادى" عن منشورات دار الآداب عام 1957، وكان عبد الصبور قد أصبح نجما فى سماء الشعر العربى، يشارك فى صياغة مدرسة شعرية جديدة مع زملاء له فى بغداد وبيروت ودمشق، وكانت مجلة الآداب كما تعتنى ببدر شاكر السياب ونازك الملائكة من العراق، تهتم بشكل واضح بصلاح عبد الصبور من مصر، وكتب مقدمة نقدية ملهمة ومهمة الناقد والشاعر والمثقف بدر الديب، وحدد فى مقدمة المقدمة علاقته بتجربة صلاح عبد الصبور قائلا: "عندما بدأت أفكر فى مقدمة الديوان، كنت عرفت القصائد متقطعة وهى تظهر، وتتبعت تلاحقها واحدة وراء الأخرى من فم الشاعر أو من صفحات المجلات والجرائد الأدبية، وليس هناك أقصر من عمر الشعر فى نفس المتلقى، فهو أكثر صور الفن تعرّضا للخطر من القارئ الحديث الذى يقرأ متعجلا سريعا ما يقدم إليه فى صفحات الجرائد اليومية أو ينفعل انفعالة قصيرة بقصيدة فى مجلة أدبية ثم تنتهى القصيدة بالنسبة له، وديوان الشعر الذى تعيش فيه القصائد مجموعة متكاملة يهيئ للقارئ موقفا جديدا من كل قصيدة، كما يعطى للعمل الشعرى حياة جديدة لا تيسرها له سبل النشر الأخرى، ومن خلال الديوان يستطيع الشاعر أن يمارس فنيته مع قرائه على درجة أعلى من الاطمئنان والأمان، فحاجة القصيدة لأن توضع فى ديوان هى فى الحقيقة غير حاجة القصة أو اللوحة لأن تجمع فى كتاب أو فى ألبوم".

بعد أن يموت الملك
 

 

كتب بدر الديب فأبدع، واستطاع أن يضع صلاح عبد الصبور الشاعر الشاب ابن الخمسة وعشرين عاما فى قلب الضوء والحركة الشعرية العربية، هذا لأن شعر صلاح كان يحتاج إلى ناقد ومثقف عظيم مثل بدر الديب، إنه ناقد بعيد عن تلك الرطانة التى يصنعها كثير من النقاد ويسبحون فى أفلاك لا تمس النص، ولا تجرحه، ولا تصل إلى مراميه، وبالتالى لن تستطيع تلك القراءات التى مازلنا نعانى أن تكشف عن مساحات الجمال الكامنة والمستترة والمراوغة فى النص، كما أنه استطاع أن يقفز على المحاذير السياسية بلغة نقدية رصينة وكاشفة وعميقة فى وقت واحد، ففى فقرة أعطاها عنوانا دالا وهو : "البحث عن الحرية"، كتب: "وقد سبق أن أوضحت المعنى الحقيقى للحكام الطغاة، وكيف أنهم تجسيد شعورى لهذا الإحساس بالضغط والضيعة الاجتماعية، والتتار يمثلون كذلك نفس ما يمثله الحكام الطغاة ومايمثله أيضا ذو الوجه الكئيب، إن المقصود دائما بكل هذه الصور الشعرية أن يعايش الشاعر ألوانا من أزمته كى يصور إيمانه بمقدرته كفرد وإدراكه الدائم لتفتت هذه القدرة فى التحقيق".
فى هذا العدد نشرت قصيدة شنق زهران يونيو 1956 وتثدرت الغلاف صورة جمال عبد الناصر
 
بدر الديب كان يعلم ويدرك ذلك الفخ المنصوب للناقد فى الديوان، الفخ المتلق برمزيات صلاح عبد الصبور العديدة، وخاصة قصيدة "عودة ذى الوجه الكئيب"، فكان الناقد بدر الديب، والنقاد الذين كتبوا بعده، يبحثون عن تأويلات فنية صحيحة، مع تخريجات مضمونية ليست دقيقة تماما، وأعلم أن الناقد يعلم ماتحمله القصائد من رمزيات تؤدى إلى التمرد، لكن الناقد المتعايش فى كل العصور، يسعى دوما للقفز على المناطق المفخخة، أو يهاجمها مثلما حدث كثيرا مع أشعار ورويات ونصوص مسرحية فى كل المراحل التاريخية الشائكة.
بعد صدور الديوان ووصوله إلى القاهرة من بيروت، احتفى به كتّاب ومثقفون ومبدعون كثيرون، مثل أنيس منصور الذى كتب فى جريدة الأخبار بتاريخ 19 ابريل 1957، كذلك الدكتور على الراعى كتب فى جريدة المساء بتاريخ 24 ابريل 1957 مقالا بديعا عنوانه "نظرة فى ديوان (الناس فى بلادى) عبد الصبور عاشق شعبى رفيع المقدار، وعلى عكس ما أشاعه كتاب ونقاد ومبدعون أن الناقد الماركسى محمود أمين العالم هاجم صلاح عبد الصبور، كتب مقالا رائعا عن الديوان، وكان قد اخترع أصحاب الإشاعة أنه كتب وقال لصلاح عبد الصبور : "كيف تكون حزينا، ونحن نبنى السد العالى"، وهذا كذب فى كذب، وافتراء فى افتراء، والمدهش أننى سمعت تلك الإشاعة تتردد على ألسنة كتاب كبار، وكنت أتحداهم قائلا لهم: "أرجو أن تأتوا لى بهذا النص المكذوب"، لكن لا أحد يرد ولا يعقب، وكم باسمك أيها النقد ترتكب الجنايات.
نشر مقال محمود العالم الطويل فى مجلة الرسالة الجديدة التى كان يرأس تحريرها يوسف السباعى بتاريخ مايو 1957، ولم بعد نشره العالم فى كتابه "أربعون عاما من النقد"، وأتمنى أن يكون نشر فى أعماله الكاملة التى نشرت فى الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ سنوات قليلة، بدأ العالم حديثه ب "هذا ديوان شعرى، جديد بحق، أصيل بحق تتجسد فى تراكيبه وقصائده وأبياته، قيم فنية جديدة للشعر العربى، وتضئ فى جنباته تجارب وجدانية ومواقف انسانية فيها صدق ووعى وتطلع، وهو ديوان لم يخرج إلينا فجاءة، بل هو ثمرة مرحلة طويلة مستأنية من الجهد، والمحاولة الصادقة، المتصلة الحاجة الملحة إلى التعبير الذى يحتضن القيم الجديدة لحياتنا فى رحابة وطواعية.."، ويسير العالم فى مقاله على هذا النحو الإيجابى، ويقدم قراءة نقدية عميقة لا تنتمى إلى ذلك النقد الهتّاف، رغم ما اتسمت به تلك المرحلة من نقد زاعق وحماسى بالغ التشيّع للنضال والكفاح، ورغم ماركسية محمود أمين العالم، إلا أنه كان يستطيع أن يقدم تحليلات مضيئة فى النصوص الجيدة، وينهى العالم مقاله الطويل قائلا: "إن صلاح عبد الصبور شاعر كبير بغير شك، فيه أصالة واقتدار، وهو واحد من طليعة الشعراء المعاصرين الذين تفخر بهم أمتنا العربية، وما أكثر ما نتطلع إليه من وجدانه الشاعر، ومن يدرى لعل المسرحية الشعرية تبدأ حياة جديدة على يد هذا الشاعر الجديد"!!!
بالفعل تنبؤ محمود العالم لدور صلاح عبد الصبور فى المسرح الشعرى كان سابقا لأوانه بشكل كبير، إذ أن المقال كان منشورا فى عام 1957، وصلاح عبد الصبور كتب أول مسرحية شعرية له، وهى مأساة الحلاج عام 1964، إنه حدس مدهش، واكتشاف بذور المسرحية الشعرية قبل أن يبادر الشعراء بخوض ذلك المجال مثل عبد الرحمن الشرقاوى الذى كتب مسرحيته الأولى "جميلة" عام 1959، وكتب بعد نجيب سرور "ياسين وبهية"، كذلك كتب بعدهم معين بسيسو "مأساة جيفارا، وثورة الزنج"، ثم توالى الشعراء فيما بعد مثل محمد مهران السيد وجليلة رضا ومحمج ابراهيم أبو سنة وغيرم ممن كتبوا المسرح الشعرى.
وعندما يقول محمود العالم أن رحلة صلاح عبد الصبور لها تاريخ، فهذا يؤكد لنا أن ثمة علاقة ما كانت تربط بين محمود العالم وصلاح عبد الصبور وشعره، وتدل على تلك العلاقة بقوة، تلك الدراسة التى نشرها محمود العام فى مجلة "الآداب يناير 1955"، وفى سياق الدراسة، وعرّج فيها على قصيدة "شنق زهران"، وقبل أن يتحدث عن قصيدة عبد الصبور، تحدث عن شعراء آخرين تناولوا حادثة دنشواى شعرا، وكتب يقول: "ويتلقف الشاعر الجديد، صلاح الدين عبد الصبور الحدث، خلال شنق زهران، أحد أبناء دنشواى، فيتمثله ويفيض تعبيره من داخل الحدث نفسه، ولكنه إذ يقوم على بناء معالم الحدث يستخدم صورا متعددة يؤازر بين عناصرها وأطرافها ويصوغ منها وحدة فنية متكاملة، هكذا عبر صلاح الدين عبد الصبور فى قصيدته شنق زهران عن الحدث العام تعبيرا فنيا،  فرش لنا أولا أرض الحدث ببطانة وجدانية، ثم راح يبرز فوقه بطله زهران فى معالمه الخارجية.."، وراح العالم يستفيض ويقتبس ويستشهد بمقاطع من القصيدة ويعمل على تحليلها بحماس إيجابى منقطع النظير.
تأملان فى زمن جريح
 
هنا يشغلنى أكثر من ملمح، هذه القصيدة التى تحدث عنها محمود العالم، لم تكن منشورة فى ذلك التاريخ يناير 1955، ونصّت كل الببلوجرافيات الخاصة بصلاح عبد الصبور بأن القصيدة نشرت فى شهر يوليو 1956 بمجلة الرسالة الجديدة، أى بعدما تحدث عنها العالم بعام ونصف، وبالفعل لم تظهر القصيدة فى أى دورية قبل هذا التاريخ، وهذا يدل على أن محمود العالم كان قد حصل على القصيدة مخطوطة من صلاح عبد الصبور، وهذا يؤدى إلى أن ثمة علاقة ما تربط محمود العالم بصلاح عبد الصبور منذ زمن سابق على بروز صلاح عبد الصبور الأوسع بعد نشر ديوانه الأول 1957، وهذا يجعلنا نتساءل: هل هذه العلاقة كانت سياسية؟، رغم أن أحدا لم يتحدث عن انخراط عبد الصبور فى أى عمل سياسى منظم، ولكن يصدق حدسنا السابق أن ثمة احتكاكات سياسية قد حدثت بين عبد الصبور وبعض المنخرطين اليشيوعيين فى ذلك الوقت، وعلى رأسهم محمود أمين العالم، كما أننى أشير إلى أن القصيدة لم تكتب تحت الأجواء التى أحدثتها الأزمات التى وقعت بين مصر ودول الغرب، فالعدد الذى نشرت فيه القصيدة، كان عددا تاريخيا، وحمل غلافه بحجمه كله، صورة الرئيس جمال عبد الناصر، مما يوحى كما قلنا سابقا بأن عبد الصبور كتبها لخدمة الأحداث السياسية، وآخر مانود الإشارة إليه، هو أن قصيدة "شنق زهران" قد أخذت اهتماما بالغا من النقاد والباحثين والمثقفين، واللافت أن الذى تحدث عنها قبل أن تكون بين يدى القارئ، هو محمود أمين العالم، وربما_فى نظرى_ أن القصيدة أقل فنيا من قصائد أخرى، ولكن التأويل السياسى للفن، هو الذى أعطى الصدارة لتلك القصيدة، وتتالى الاهتمام بهذه القصيدة من الأجيال التالية لجيل أستاذنا محمود أمين العالم.
لم يكن محمود العالم هو الوحيد أو الأبرز الذى انتصر لصلاح عبد الصبور، وإن كان الأول تاريخيا، لكن هناك من انتصروا بقوة أيضا لصلاح، وعلى رأسهم الدكتور لويس عوض، ومحيى الدين محمد، إذ كتب محيى الدين محمد مقالا مهما فى مجلة الآداب الصادرة فى شهر يونيو 1957، ونشره فى كتابه "ثورة على الفكر العربى المعاصر"، أما لويس عوض فظل يحتفل بصلاح عبد الصبور دائما، حتى أشعاره الأخيرة، ولا نستطيع أن نحصى فى تلك السطور كل من احتفلوا وحللوا واستفاضوا فى القراءات الإيجابية لديوان الناس فى بلادى.
فلسفة وفن
 
رغم ذلك الاحتفاء، إلا أن الوجوه الرجعية أو القديمة على أقل تقدير، هاجمت الديوان وصلاح عبد الصبور منذ اللحظة الأولى، فأنيس منصور مثلا، والذى كتب فى جريدة الأخبار، وأعاد بعض ما قاله فى مجلة الرسالة الجديدة قائلا: "..شعر بلا قافية.. ولغة بلا نحو.. وعالم بلا طبقات..,ألأ{<لأ ألأًإ]{ ÷, المفكر الكبير.. واليد الخشنة هى الفكر الرفيع..والنثر أغلبية ساحقة.. والشعر أقلية مسحوقة.هذا هو العصر الذى اقتحم علينا حياتنا وأحلامنا وآمالنا فى مجتمع أفضل، وهذا مايثيره الشعر الحر من القافية، ويثيره ديوان الناس فى بلادى".
كان العقاد له موقف واضح وعدائى تجاه الشعر الجديد، وكان يكيل لهذا الشعر ومبدعيه قدرا كبيرا من السخط والكره والنقد، وأصبح هذا العداء له المكان والمكانة عندما تولى عباس العقاد لجنة الشعر فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وأصبح مقررا للجنة، وبالتالى اختار الشعراء الذين تشيعوا واعتنقوا أفكاره، وعندما تقدم صلاح عبد الصبور بشعره إلى اللجنة، أحال العقاد شعر صلاح إلى لجنة النثر للاختصاص، وهذه واقعة شهيرة كتب عنها الكثيرون، واعتبر العقاد أن شعر صلاح عبد الصبور ينتمى إلى النثر، لأنه شعر غير موزون وغير مقفى، كما نصّت كل الأدبيات النقدية على تعريف الشعر بأنه كلام موزون ومقفى، مما دفع صلاح عبد الصبور ليكتب مقالا فى جريدة أخبار اليوم بتاريخ 17 يونيو 1961 عنوانه: "موزون...والله العظيم"، بدأه صلاح قائلا: "عبثا نحاول نحن الشعراء المحدثون، أن نؤكد لبعض الأدباء والنقاد أن شعرنا الحديث موزون، تجرى موسيقاه العروضية على نفس الأوزان التى دونها الخليل بن أحمد، وكنت أظن أننا لن نحتاج إلى هذا التأكيد، وأن بعض أساتذتنا وزملائنا من الأدباء والنقاد سوف يعفوننا من هذا البيان، لو قرأوا ما كتبنا، وتتبعوا إنتاجنا الفنى، دون تحيز سابق، أو ميل قديم، ولكن الهوى فى حياتنا الأدبية يغلب الحجة إلى حين، ويوشك أن يحجب وجه الحق، فيقف أنصار الشعر الجديد عندئذ، وظهورهم إلى الحائط، وكيف لا يقفون هذا الموقف، وهم متهمون بالتخلى عن الأوزان والقافية، وبالكلام (السايب)، والأستاذ العقاد كتب فى أخبار اليوم، مقالا ممتعا عن الشعر الشعبى، لا نستطيع أن نعترض عليه، ولا نستطيع كذلك على قوله أن السليقة الشعبية تأبى أن يكون الشعر (سلبيا) وأن لها أوجها فى التفنن حين تنظم وتشهر وتشعر، فتلتزم هذه الموسيقة العروضية التزاما قد يجاوز المدى الذى يصطنعه الشعر المعرب الفصيح"، ويسترسل عبد الصبور بعد هذه المقدمة فى الرد على العقاد فيما نسبه إلى الشعراء الشباب، واتهام شعرهم بالسايب والخالى من الوزن والقافية، بل زاد على ذلك بأنهم أعداء الوزن والقافية.
على البحر ١٩٦١
 
والحقيقة أن الكاتب الكبير عباس العقاد لم يكن فردا، ولا كاتبا وحيدا، ولكنه كان اتجاها وتيارا أفزعته الحركة الشعرية الجديدة وتاثيرها وحضورها بين المثقفين والمبدعين، كان العقاد ومعه تلاميذه من طراز عزيز أباظة والعوضى الوكيل وصالح جودت وطاهر الجبلاوى وغيرهم يهاجمون من كل اتجاه، ومن كل الزوايا التى يتربصون بها، وعلى المستوى التاريخى دائما تكون الشريحة الأكثر رجعية، هى التى تهيمن على المراكز واللجان والمؤسسات الثقافية، فالعقاد كان مقررا للجنة الشعر، وكان يتهم شعراء المدرسة الحديثة بأنهم عاجزون عن كتابة قصيدة عمودية، وعندما عقد مهرجان شعرى فى دمشق عام 1961، وكانت لجنة الشعر هى الجهة التى ترشح الشعراء، اعترض العقاد، وقال: لا بد الشاعر الذى يتم ترشيحه، يجيد كتابة الشعر العمودى، ساعتئذ انبرى الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى ليكتب هجائية عمودية فى العقاد، بدأها ب:
(من أى بحر عصىّ الريح تطلبه
إن كنت تبكى عليه، نحن نكتبه
يامن يحدث فى كل الأمور، ولا
يكاد يحسن أمرا، أو يقرّبه
أقول فيك هجائى، وهو أوله
وأنت آخر مهجو وأنسبه
تعيش فى عصرنا ضيفا وتشتمنا
أنّا بإيقاعه نشدو وننطربه)...
أما صلاح عبد الصبور قصيدة طويلة عمودية بدأها:
(خافقى نحوها استطير قلبى
وثب الشوق بالجناحين وثبا
كيف لا يورق النداء بقلبى 
صبوة حلوة وشوقا ملبى
كيف لا أشرع الجناح إليها
طائر الشوق، مستهاما، محبا
وأغنى القصيد فى مسمعيها
جاهدا أن يكون صوتى عذبا)
وللأسف لم يكف العقاد عن هجومه على الشعر الجديد، واستبعاده من أنشطة اللجنة، وهذا كما أسلفنا دأب الكيانات الرسمية، ومن عجائب الأمور أن أستاذا للفلسفة، ومن حوارييى العقاد، وعضو لجنة الشعر، جنّد نفسه للهجوم على الحركة الشعرية الحديثة، بينما كتب عن العقاد سلسلة مقالات رفعته إلى قمة الشعر والشعراء فى العصر الحديث، وكتب مقالا طويلا فى جريدة أخبار اليوم فى مارس 1963، عنوانه "ماهكذا الناس فى بلادى" مهاجما فيه صلاح عبد الصبور وديوانه، بدأه هكذا: "لو سئل أنصار الشعر الحديث فى الإقليم المصرى: من هو شاعركم الأول؟ لأجابوا على الفور_فيما أرجح_ هو صلاح عبد الصبور، ولو سئل صلاح: ماديوانك؟ لأجاب: هو ديوان الناس فى بلادى، وعنوان الديوان هو نفسه عنوان لإحدى قصائده، فلا بد أن تكون القصيدة لدى الشاعر، فإذا أراد ناقد أن يختار قصيدة واحدة من قصائد هذا الديوان، لما كان فى اختياره لهذه القصيدة خطا ولا إجحاف"، وبعد استرسال مضطرب وكاره ومحرّض لا جدوى من اقتباسه، لأنه استرسال عدوانى بامتياز، وبعد مقدمة طويلة تحض على كراهية الشاعر والقصيدة وتلك الحركة التى تنبثق منها القصيدة، وينتمى لها الشاعر، يقول زكى محمود: "الناس كما يراهم الشاعر فى بلاده، جارحون كالصقور، _ليسوا هم كالعقبان جارحين فى شرف ونبل، بل هم كالصقور يخطفون خطفا فى خسّة وغدر، قد تأخذهم النشوة فيغنون، لكن أى غناء؟ (كرجفة الشتاء فى ذؤابة الشجر)، غناء بارد برودة الشتاء، مرتجف رجفة الخائف، يهز الأطراف الظاهرة ولا ينبعث، فهو غناء كالنواح، لأن ريح الشتاء فى أطراف الشجر تنوح ولا تغنى، لكنه نواح لا يستدر العظف بل يفزع ويخيف، والناس فى بلاد الشاعر قد يضحكون، لكن (ضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب)، فهو _إذن_ ضحك متأجج بالحقد الذى يأكل قلب صاحبه أكلا، والناس فى بلاد الشاعر قد يهمون بالحركة، لكن خطاهم سرعان ما (تسوخ فى التراب)، لأنهم بطاء ثقال غلاظ، وحتى إذا ساروا فإلى أى شئ يسيرون؟،  يسيرون للقتل والسرقة، وإذا جلسوا فلأى شئ يجلسون؟ يجلسون للشراب فيشربون ويجشئون"!!!!، ويسترسل زكى نجيب محمود فى هذه القراءة التى يضيف لها من عندياته كل ما يدفع قارئه إلى كراهية هذا الشعر، وذلك الشاعر،،  وينتهى فى مقاله الهجائى المقذع بقوله: "هذا هو الشعور الشاعر إزاء الناس فى بلاده، لكن ما هكذا الناس فى بلادى، فإذا كان الشاعر قد باع القالب الشعرى ابتغاء مضمون، فقد ضيّع علينا القالب والمضمون"، هكذا أراد أستاذ الفلسفة الأكاديمى فى مطاردة الشاعر، بل الحركة الشعرية كلها، كما أنه كتب أيضا مقالا لا يقل ضراوة عن ديوان "مدينة بلا قلب" للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، هاجمه وهاجم قصائده، وبعيدا عن عبد الصبور وحجازى، فزكى محمود كان أحد العتاة فى كتابة مطولات يهاحم ف6يها الشعر الجديد، وفى الوقت نفسه كان أحد المنتصرين بقوة للشعر الرجعى، وجمع كل هذه الدراسات ونشرها فى كتابه "فلسفة وفن"، وكان منظّرا للحركة الشعرية الرجعية، وهو الذى كتب بيان لجنة الشعرعام 1964، لتجريد هؤلاء الشعراء من إحساسهم القومى والدينى والوطنى كذلك.
ليلى والمجنون
 
بالطبع لم يسكت عبد الصبور على هذه التجريدة المصحوبة بقدر من التحقير والتسخيف والتحطيم والاستقواء بالبعد القومى والدينى والوطنى من وجهة نظر الفيلسوف، وكتب صلاح مقالا فى جريدة أخبار اليوم بتاريخ 25 مارس 1963، رد فيه على كل الافتراءات التى طرحا زكى نجيب محمود، هذه الافتراءات التعسفية والمحمولة على كراهية الشعر الجديد، وكان عنوان المقال "ماهكذا النقد"، وبدأ صلاح مقاله قائلا: " إذا كان بعض الشعراء عاجزين عن العطاء، فبعض النقاد عاجزون عن العطاء أيضا كذلك، يخرج الشاعر من صحبتهم وهو أشد فقرا"، وبعد أن يقتبس عبد الصبور فقرة من مقال زكى نجيب أغار فيها الناقد عن جهل الشاعر بقواعد الشاعر، فيقول صلاح: "ويقول الناقد: إننى لم أتبع من قواعد الشعر إلا التفعيلة الواحدة"، ولنسأله ماهى قواعد الشعر فى نظره، هل هى التناول الشعرى والتعبير بالصورة؟ هل هى عمق الإحساس وتجسد الأفكار؟ لا.. لكن قواعد الشعر عند الدكتور كما يتضح من كلامه هى الوزن والقافية فحسب"، ويستطرد صلاح عبد الصبور مناقشا مقال الناقد فقرة فقرة وتفصيلة تفصيلة، لكى يوضّح المدى الرجعى الذى بلغ بالناقد وبلغ به فى عدم فهمه للحركة الشعرية الجديدة، وتحامله الظالم على الشعراء أصحاب المستقبل الحقيقى.
غير هؤلاء كان الشاعر صالح جودت أحد أذرعة العقاد فى تسخيف وتحقير شعراء الموجة الجديدة، وفى أكتوبر عام 1961، ولم يكن جودت يجنّد النثر فقط فى الهجوم على الشعراء، ولكنه كتب قصيدة هاجم فيها الشعر والشعراء واتهمهم بأنهم صهاينة وشيوعيون معا، وأن فنهم يباع ويشترى، واحتدمت المعركة بشكل شديد اللهجة، مما دفع فتحى غانم يكتب مقالا فى تلطيف الأجواء بين الأجيال فى مجلة صباح الخير بتاريخ 12 أكتوبر 1961، وكان عنوان المقال "الأكبر سنا..والأصغر سنا"، وبدأه ب : "لا أظن أن أحدا ينكر فضل طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمود تيمور وعزيز أباظة على الأدب والثقافة العربية، إنهم الأساتذة الكبار الذين تعلمنا منهم الكثير، وتخرجت على أيديهم أجيال بعد أجيال من الشبان المثقفين فى جميع البلاد العربية، إنهم الآباء والأجداد، وقد يعارضهم الأدباء الذين جاءوا من بعدهم وتعلموا على أيديهم، قد يوجهون إليهم النقد العلمى الموضوعى .. وتثور بين الأبناء والآباء، معارك ثقافية مفيدة ومليئة بالحيوية والتفاعل بين القديم والحديث، وهذه المعارك والخلافات، مهما اشتدت واحتدمت، فهى لا تعنى أبدا، أن الجيل المعاصر من الأدباء، ينكر بنوته للجيل القديم، أو يتجاهل أنه امتداد من الجذور والأسس التى غرسها الأساتذة الكبار، وأنه تطوير لهم".
هذا المقال الذى كتبه فتحى غانم رئيس تحرير مجلة صباح الخير آنذاك، أثار بعض الشجن لدى صلاح عبد الصبور، ومن ثم وجّه رسالة إلى فتحى غانم فى الأسبوع التالى فى 19 أكتوبر، نوّه فيها إلى الحرب الضروس التى يشنّها الجيل القديم، والذى يعمل على نسف كل ماهو جديد، وجاء المقال مفسرا لكثير من المتاريس التى يختفى خلفها الجيل القديم، إذ أن صلاح عبد الصبور ورفاقه، كانت قد نبتت له أنياب وأظافر للدفاع عن مضمون حركة الشعر الجديد، والتى أصبحت "ملطشة" لكل من هب ودبّ.
كان صلاح عبد الصبور قد حقق حضورا شعريا وثقافيا كبيرا فى الحياة المصرية والعربية، واستطاع أن يتجاوز الأطر الرسمية الممثلة فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وكان يحقق انتصارات شعرية ونقدية وفكرية، وعلى مستوى الترجمة، وكانت دراساته ومقالاته وأشعاره محل جدل واهتمام دائم، واستطاع أن يفلت من حصار النخبة الرجعية المحمية بلجان ومؤسسات وادعاءات قومية ودينية وعروبية وأصالة، وكانت اسمه يتجاوز هؤلاء الذين حاولوا النيل منه، والنيل من منجزه الإبداعى بشتى الطرق، حتى الدكتور طه حسين، وهو الأكثر عدلا من عباس العقاد، صمت تماما، وعندما شرع بعض من الشعراء تأليف جمعية خاصة بهم تحت اسم "جمعية الشعراء" عام 1957، سألته مجلة آخر ساعة عن سر ثورة الشعراء عليه، قال: "إن العرب كانوا يقسمون الشعراء إلى أربعة أقسام، شاعر فحل، وشاعر، وشويعر، وشعرور، فلنترك (الشعارير) يقولون مايحلو لهم"!، هذا ماعقّب به طه حسين دون زيادة أو نقصان، وابتعد عن القضية مؤثرا الصمت أو السلامة.

المثقف والسلطة من جديد:

أعتقد أن أمر المثقف والسلطة أصبح الحديث فيه مكررا ومعادا ومن نوافل القول، ولكن طالما هناك مثقف، وهناك سلطة، فلا بد من إثارة الأمر مرات ومرات، رغم ذلك التكرار، ويشتد الأمر أهمية عندما تكون هناك إشاعة تاريخية ترسخت فى الأذهان، وأصبحت بديهية، فلا بد من توضيح الملابسات التى أدت إلى تلك الإشاعة والتى أصبحت تنافس الحقيقة، بل أصبحت الحقيقة نفسها فى نظر كل الناس، ومن الحقائق الفعلية أن نظام يوليو الوطنى كان لديه ما يفعله على المستوى الاجتماعى تجاه فقراء الفلاحين وفقراء المدن، ومحاولة بناء دولة صلبة، ذات توجه فعلى نحو إقامة ما يسمى بالعدل الاجتماعى، ولكن كل هذه الأحلام شابها قدر كبير من عدم التحق، وهذا لأسباب تتعلق بطبيعة الاستبداد التى شاعت بضراوة فى عقدى الخمسينات والستينات، وفتح السجون والمعتقلات لكل من اعترض وتمرد وتفوّه بكلمة ضد النظام، ولدينا دليل واضح تماما فى العام 1959، عندما قبض النظام على آلاف اليساريين، ووضعهم فى السجون والمعتقلات دون أى ذنب إو محاكمة، وضمت تلك الأعداد الكبيرة من المعتقلين خيرة المثقفين والصحفيين والكتاب، مثل لويس عوض وصلاح حافظ وألفريد فرج وفؤاد حداد وصنع الله ابراهيم ومحمدحمام ومحسنة توفيق ومجدى نجيب وعبد الحكيم قاسم ومحمد خليل قاسم وسامى خشبة ومحمد مهران السيدوشهدى عطية الشافعى وفخرى لبيب وفتحى عبد الفتاح وطاهر عبد الحكيم واسماعيل المهدوى وانجى أفلاطون وغيرهم وغيرهم تفرقت به السجون والمعتقلات، من سجن أبى زعبل، إلى معتقل الواحات وجناح وطرة، وسقط بعض هؤلاء تحت كافة أشكال التعذيب والتنكيل والسحل، وعلى رأسهم الشهيد شهدى عطية الشافعى الذى مات وهو يهتف لجمال عبد الناصر فى 15 يونيو 1960.

شنق زهران يونيو 1956
 
لذا كان الكتّاب والمثقفون والمبدعون يعيشون فى حالة افتقاد للحريات بشكل شبه كامل، فكل السيوف مشرعة فى وجه المثقف وعلى استعداد دائم للعمل فى رقاب المثقفين، لذا توزعت صفات كثيرة على هؤلاء المثقفين، فهناك الشاعر الذى هتف بمدح الزعيم مثل الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى فى قصيدته عبد الناصر التى كتبها فى يونيو 1956 وقال فيها:
(فلتكتبوا ياشعراء أننى هنا
أشاهد الزعيم يجمع العرب
ويهتف "الحرية .. العدالة.. السلام"
فتلمع الدموع فى تقاطع الكلام
وتختفى وراءه الحوائط الحجر
حتى العمودان الرخاميان يضمران،
والشرفات تختفى،
وتمّحى تعرجات الزخرف
ليظهر الإنسان فوق قمة المكان،
ويفتح الكوى لصبحنا
ياشعراء يامؤرخى الزمان
فلتكتبوا عن شاعر كان هنا
فى عهد عبد الناصر العظيم!!)
ونحن نصدّق حجازى الذى كان قد تجاوز العشرين بعام واحد، وكان منبهرا بإنجازات جمال عبد الناصر، خاصة فى عام 1956، حيث كانت دول الاستعمار متربصة بمصر، وكانت وتيرة الحماس عالية إلى حد بعيد، وشارك كثيرون فى الهتاف لعبد الناصر وإنجازاته، ولم يكن النظام آنذاك اصطدم باليسار الذى ساهم بقسط وافر فى صناعة ذلك الحماس، تحت قوس وطنى واحد مع سلطة ثورة يوليو.
كان صلاح عبد الصبور أكثر حكمة وتريثا، إذ حرّر شعره من مديح أشخاص أو زعماء أو رؤساء، فكانت قصائده الوطنية تتسم بالوطنية برموز أكثر عمومية، مثل قصيدته التى كتبها فى أجواء عام 1956 أيضا "سأقتلك"، والتى كان يخاطب فيها الجندى الغاصب، فيقول:
(سأقتلك
من قبل أن تقتلنى سأقتلك
من قبل أن تغوص فى دمى
أغوص فى دمك
وليس بيننا سوى السلاح
وليحكم بيننا السلاح)
أو فى قصيدته "الشهيد" يقول:
(ياعجبا! كل مساء موعدى مع المضرج الشهيد
كأن منديل الشفق..
دمه 
كان مدرج الهلال كفه ومعصمه
كأن ظلمة المساء معطفه
وبدره السنا أزرار سترته
كأنه مسافر على جواد الليل مشرقا زمغربا..)
هكذا حرر صلاح عبد الصبور من ترهات المديح والهتاف لشخص أو لزعيم أو لسلطة أو لظاهرة أو لفكرة سياسية أعجبته واقتنع بها، وأصبح عبد الصبور أحد العقول التى تصوغ رأيا سياسيا ينتصر للدولة المصرية، وراح يفعل ذلك فى كتاباته النثرية السياسية بتوسع، فكتب عن القومية العربية، وكتب عن امبراطورية ناصر الأفريقية، وانتصر للفكرة التى كانت سائدة فى ذلك الوقت وهى الاشتراكية العربية، فيكتب فى مجلة صباح الخير بتاريخ 8 مايو 1958: "..وتهدف الثورة القومية العربية من وراء ذلك كله، إلى بناء مجتمع اشتراكى، والمجتمع الاشتراكى بأبسط معانيه هو المجتمع الذى يشترك جميع أفراده فى خيراته، ولما كانت الخبرات الاشتراكية قد تعددت وخاصة بعد نجاح أول ثورة اشتراكية سنة 1917، واختلفت تلك الاتجاهات والخبرات الاشتراكية باختلاف الأرض التى قامت عليها، والظروف التى نبتت فى وسطها، فإن من واجب الثورة القومية العربية أن تخط طريقها إلى الاشتراكية مستعينة بتلك الخبرات والاتجاهات".
مأساة
 
ولا أعلم على وجه اليقين هل صلاح عبد الصبور كان مقتنعا بهذا الذى كتبه، أم أنه كان يساهم بشكل أو بآخر ماتمليه أيديولوجية النظام حول ذلك الأمر وأمور أخرى، فصلاح عبد الصبور كان مثقفا كبيرا، وما كتبه فى هذا المجال غير مقنع، وغير علمى، وإذا كانت فكرة الاشتراكية العربية كانت أيديولوجية القوميين العرب، فلا أعتقد أن صلاح عبد الصبور كان منتميا إلى تيار القوميين العرب، لأننا ندرك جيدا ما كان يسعى عبد الصبور إليه فى شعره، وهو بعث التراث المصرى فى كل ما يكتبه، وربما كان شعره يتسم بكثير من وجوه التمرد والغضب والاحتجاج الوجودى إذا صح التعبير، ولكنه ينحو عكس ذلك فى مقالاته السياسية، لذلك أطلق عليه الناقد ابراهيم فتحى "المكتئب شعرا، والمبتسم نثرا"، ومصطلح المبتسم نثرا، أكثر عدلا وصحة من أن نقول بأنه كان أحد أبواق السلطة الناصرية، لكنه كذلك كان يشارك فى الحملات التى تحمل بعدا نظاميا، ففى الوقت الذى تم القبض على كافة الشيوعيين المصريين فى مططلع العام 1959 بعد انهيار الزواج المؤقت بينهم وبين النظام، وبعد احتجاجهم على الوحدة المصرية السورية، وبعد انتصارهم للشيوعيين العراقيين، كتب عبد الصبور فى مجلة صباح الخير مقالا عنوانه "الشيوعيون .. لم يتخلوا عن المطالبة بالوزارة" وذلك بتاريخ 4 يونيو 1959، وهاجم فيه الشيوعيين العراقيين بضراوة، وكأن كاتب المقال ليس صلاح عبد الصبور، وجنّد قلمه فى تلك الفترة لمهاجمة الشيوعيين العراقيين وعبد الكريم قاسم، وبعيدا عن قضية شيوعيى العراق ومصر، كتب فى تلك الفترة سلسلة مقالات عن اسرائيل، تصلح حتى الآن لكى تكون قاعدة لفهم المرامى الأولى لتلك الدولة.
مهرجان الشعر الثانى
 
ولن نندهش من كثير مما كتبه صلاح فى تلك الفترة فى مجال السياسة، فهو كان ينتصر لكل ما تقرره الدولة آنذاك، ويكتب داعما له، وبالطبع لن ننسى أن عبد الصبور كان محررا فى أروقة الدولة، رغم أن التأميم لم يكن قد حدث بعد، فعندما نشأ الاتحاد القومى، كتب عبد الصبور عددا من المقالات، منها مقال "الواجب الأيديولوجى للاتحاد القومى"، نشره فى مجلة روز اليوسف بتاريخ 16 نوفمبر 1959، جاء فيه: "..والجمهورية العربية المتحدة لا تعترف بنظام الأحزاب، وليست الأحزاب إلا تعبيرا عن مصالح الطبقات، والأحزاب قد تتنازع وتتصافى سبيل تغليب طبقة على طبقة، مضحية بمصالح الأمة ولكنها أيضا أقرب وسيلة لمعرفة صدى آراء الطبقات"، ويهتم مقاله بتلخيص ما يريد قائلا: "إن الاتحاد القومى هو جسم ثورتنا، وحرصنا على نجاحه لا يعدله إلا حرصنا على حياتنا، ولذلك فنحن نرجو أن يظل كبيرا كما ولد كبيرا، وأن تزيده الأيام غنى فى المحتوى، وأن يظل رائدا للتقدم والقومية العربية لأمتنا العربية".
هذا مقال دعائى يأتى ضمن مقالات كثيرة، يدلنا على أن صلاح عبد الصبور كان قد تورط فى الانتصار للدعاية للتوجهات السياسية التى تفرضها أو تقترحها السلطة، ويبحث عن مبررات أو مخارج لها، فالحديث عن الأحزاب وعدم جدواها لا يرسله سوى الذين يعملون داخل أروقة السلطة كأبواق فقط، وهذا ما نستبعده وننفيه عن مسيرة صلاح عبد الصبور، حتى لو بدا الأمر كذلك، لأن عبد الصبور كان دائما يضع ما يكتبه محل جدل، وفى عبارات تكاد تكون حذرة، ثانيا لا ننسى أنه يعمل فى صحف ومجلات تعمل وفق ما تطرحه السلطة آنذاك، وهذا الأمر لا يخرج عنه أحد بشكل شبه مطلق، فالمثقف شاعرا كان أو كاتبا أو مفكرا أو أكاديميا، لا يستطيع أن يعمل فى العمل العام، إلا وكان مؤازرا لسياسة الدولة وتوجهاتها مهما كان ذكاؤه وتحايله.
وليس لدينا أى أدلة تنفى ذلك الأمر سوى الكاتب خالد محمد خالد عندما استدعاه جمال عبد الناصر لكى يشارك فى الاجتماعات المفتوحة مع الرئيس حول الميثاق، وبعد أن تلكأ خالد محمد خالد فى تلبية النداء، أصرّ الرئيس على وجود خالد، فطلب منه الأخير ألا يغضب من أسئلته أو إجاباته أو ملاحظاته أو مؤاخذاته، فوافق الرئيس على ذلك، لأنه كان يقدر ويحترم ذلك الرجل، وحضر بالفعل خالد محمد خالد وكان شجاعا وجريئا وواضحا فى طرح كل ما كان يدور فى رأسه ومقتنعا به، ولم يتح لأحد تلك الحرية التى منحت لخالد محمد خالد فى الحوار على مدى ذلك التاريخ كله، وكان عبد الناصر مستوعبا ومتفهما لكل ما قاله الرجل.
لم يتعرض خالد محمد خالد لأى أذى، ولا لأى تضييق على حياته أو رزقه، ولكنه تعرّض لنقد ساخن من عدد من الذين تحركوا فورا من الكتاب لانقاده عملا بمبدأ الحرية، وسوف أشير إلى نموذجين، النموذج الأول هو الكاتب الصحفى والروائى فتحى غانم رئيس تحرير مجلة صباح الخير، إذ كتب مقالا عنوانه "دفاع عن أحلام خالد.. ومعارضة تطبيق الأحلام"، ومن العنوان نستطيع أن ندرك المضمون، فهو يعلن تضامنه مع كل الأحلام التى تحدث عنها خالد محمد خالد، ولكنه يصف خالدا بأنه رومانتيكى، أى ساذج، لأن هذه الأحلام تحتاج إلى وقت طويل وإمكانيات، ويكتب قائلا: "..والإفراط فى الأحلام، يترتب عليه أحيانا الوقوع فى الخطأ، لم يكن يتوقعها الحالم، فمن أجل الحب الذى يكنّه الأستاذ خالد محمد خالد لأعدائه، وهو أمر سيجازيه الله عليه بالثواب فى الآخرة، نجده يلوى أعناق الحقيقة، فيحول الثورةإلى تطور تطور طبيعى"، يبدو ظاهر المقال بأنه ناعم ولطيف ومحايد، لكن باطنه مفعم بعنف مستتر خلف كلمات شبه هادئة.
سأقتلك
 
أما محمود السعدنى، فكتب فى العدد نفسه مقالا عنوانه "ديمقراطية هذا الرجل"، ورغم العنوان الرصين، جاء المقال ساخرا، وهذا شأن محمود السعدنى المعتاد، ولكن هذه المرة كانت السخرية موجعة، وتسحب الموضوع فى اتجاهات أخرى، وبدون استفاضة فى الأمر، فخالد محمد خالد هو الكاتب الوحيد الذى خرج عن السياق، ووقف أمام الحاكم لكى يقول له: لا، بنبرته الهادئة المعروفة عنه، وكان قد ودّع المرحلة التى كان فيها ذات صوت خطابى بارز وحاد بعد المعركة الضارية التى نتجت عن كتابه "من هنا نبدأ" عام 1950، وكانت له ظروف وملابسات وشخصية وقبول وحضور خاص، لم يتوفر كل ذلك لأى واحد من المثقفين العاملين فى حقل الدولة، أو الذين يضعون قدما فى الشارع، ويحلمون بوضع القدم الأخرى فى قصر السلطة، بالطبع صلاح عبد الصبور لم يكن يحلم بأن يكون فى قصر السلطة، ولكنه عمل على محاولات تفادى عنف السلطة، فكان يكتب بقدر ما من التعقل، أو بالقدر الذى يرضى الحد الأدنى من قناعاته، ولكنه سرّب كل مايريد أن يقوله فى مسرحياته البديعة "مأساة الحلاج والأميرة تنتظر وليلى والمجنون ومسافر ليل وبعد أن يموت الملك"، كما فعل ذلك فى دواوينه كلها، بداية من ديوانه الأول الناس فى بلادى، وفى دواوينه التى توالت فيما بعد مثل أقول لكم وأحلام الفارس القديم وتأملات فى زمن جريح والإبحار فى الذاكرة وشجر الليل.
وفى مسرحيته "بعد أن يموت الملك" التى صدرت فى فبراير 1973، أى بعد رحيل جمال عبد الناصر بعامين وبضعة شهور قليلة، أفصح صلاح عبد الصبور عن مكنوناته التى لم يستطع أن يقولها كلها، وقدكتب فى صدر المسرحية "إلى الأميرة الأسيرة"، ذلك الإهداء الذى تم حذفه من كل الطبعات التى جاءت بعد ذلك، وفى ظنى أن صلاح عبد الصبور أدان كل رموز المرحلة الناصرية، المؤرخ والقاضى والفنان والشاعر، وهنا لا يستثنى نفسه، ومن الواضح أن الملك الذى يقصده هو جمال عبد الناصر، والأميرة الأسيرة هى مصر، وأظن أن السلطات هى التى حذفت الإهداء، لأنه _أى الإهداء_ يعتبر مصر وكأنها لم تتحرر.
فى وداع صلاح عبد الصبور
 
دخل صلاح عبد الصبور فى معارك عبثية لم يكن له أى شأن فيها، مثل معركة مجلة الكاتب التى تم تنصيبه رئيسا لتحريرها بعد الإطاحة بمجلس تحريرها، ونال بسبب هذا الموقف كثيرا من السباب والدسائس، وظل رئيسا للتحرير لفترة وجيزة، بعدها ذهب إلى الهند مستشارا ثقافيا للدولة المصرية، وعاد إلى مصر لكى يتولى رئيسا لمجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب لفترة قصيرة للغاية، ويحدث الحدث الذى أغضب كثيرا من المثقفين، وهو اشتراك اسرائيل فى معرض الكتاب، وكأن صلاح عبد الصبور هو الذى دعا اسرائيل، وكان كثيرون يتربصون به ويقولون "طالما أنه غير مسئول عن دعوة اسرائيل، فكان عليه أن يقدم استقالته"، وأعتقد أن عبد الصبور لم يستطع أن يفعل ذلك، وهو فى قمة المؤسسة الثقافية، وشارك كثيرون فى تحميل عبد الصبور وحده هذا الموقف، والذى أدى إلى رحيله الدرامى فى أغسطس 1981، رحيل الشاعر الذى عاش سنوات قليلة، وأعطى فنا وإبداعا وفكرا يمكث فى عقول أجيال لقرون طويلة قادمة.
رثاء ادونيس له
رثاء ادونيس له
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة