بعد 11 عاما من الاختفاء والابتعاد عن المناخ الغنائي في مصر- اذا جاز وصفه بالمناخ أصلا- تطل علينا عصفورة الغناء المصري، الطائر الذى حلق بالموسيقى والغناء الى سموات فنية مدهشة وبديعة... تطل عفاف راضي في ليلة مقمرة يوم الخميس الماضي على مسرح النافورة بدار الأوبرا المصرية في ليلة وما أحلاها وأجملها من ليلة...ليلة الاحتفال بمرور 28 على رحيل عبقري الموسيقى المصرية بليغ حمدي. ومن غير عفاف تشدو في مثل هذه الليلة وهي التي توهجت في سماء الفن المصري في نهاية الستينات بألحانه التي أصبحت أمثال شعبية يرددها الناس بينهم في الشوارع والمجالس والبيوت.
بحضور مبهر ووسط جمهور غفير امتلأت به مقاعد المسرح المكشوف واستقبال كادت أن ترد عليه عفاف بدموع الحنين والعرفان غنت عفاف 12 أغنية من ألحان بليغ تفاعل عها الجمهور واستعاد الزمن والمناخ الحقيقي الذى أفرز صوت غير مسبوق مثل عفاف راضي.. صوت أوبرالي دافئ تعبر من خلاله ألحان كبار الملحنين وتبزغ في ثناياه كلمات كبار الشعراء.
في مقابلات صحفية أجراها الأديب يوسف القعيد مع الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل وفاته بسنوات قليلة عن علاقة عبد الناصر والمثقفين العرب واهتمام الزعيم الراحل بصوت عفاف راضي قال الأستاذ هيكل- وكان وزير للاعلام ورئيس تحرير الأهرام وقتها- " في أحد الأيام لفت جمال عبد الناصر نظري إلى صوت عفاف راضي. قال لي إنها موهبة. صوتها فيه حاجة وعيّنة من فيروز، ولو أن أحداً اهتم بيها في الإذاعة، ووفروا ليها ملحنين كويسين، يمكن تصبح عفاف راضي فيروز أخرى. فأرجوك تهتموا بيها. ثم عدنا وحدثت أمور أخرى وجدّت ظروف مغايرة».
الرئيس عبد الناصر أراد أن يشجع المطربة عفاف راضي كمنافسة لفيروز بعدما ملأ صوتها العالم العربي واعتبر أن ظهور جارة القمر خارج مصر خطأ في الجغرافيا ..!
والتقط الخيط بليغ حمدي الذى قال عن صوتها " النغمة التي كنت أبحث عنها ".وبدأ سيل الألحان لعفاف. لحن بليغ لعفاف حولي 60 لحنا، تحمس لها عبقري الموسيقي العربية ليقف ورائها قائدا لأوركسترا حفلتها الأولي في بداية عام 1970 وهي ابنة الـ 18 عاماً في حفل جمع عبد الحليم حافظ و شادية وفايزة أحمد لتغني هي "رودا السلام" التي أحدثت ضجة في تاريخ الغناء العربي..و تنهمر ألحان بليغ العاطفية والوطنية كأمطار الخير على ابنة المحلة الكبرى فتغني هوا يا هوا وتساهيل وكله في المواني ، وجرحتنا عيون السود ولمين يا قمر وده حرام والنبي، وقضينا الليالي وسلم سلم، وعطاشا، ويمكن على بالي، وتعالى جنبي، وعشاق الليل،
عفاف راضي لم تفكر أن تكون مطربة عادية وانما انصب تفكيرها ومجهودها على أن تكون مطربة أوبرا ولذلك درست في الكونسير فتوار، وهي في العاشرة من عمرها ودرست البيانو وحصلت على البكالوريوس بتقدير امتياز وهي في سن الثامنة عشرة حيث حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراة من أكاديميه الفنون وأصبحت أول مطربة عربية تحصل على لقب الدكتوراة.. لكن بليغ أقنعها بأن تصبح مطربة وتبناها ولا يعرف كثيرون أنه تفرغ لها وحدها عاما كاملا ليلحن لها أجمل الألحان بل شاركها بطولة مسلسل إذاعي لأول وآخر مرة له في الإذاعة.
ألحان بليغ الكثيرة لعفاف راضي في بداية السبعينيات أدى بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ الى تقليل نشاطهما الفني، لدرجة جعل الكثير يتساءل هل السبب بزوغ نجم عفاف راضي مع ألحان بليغ حمدي.
عفاف راضي بصوتها الرقيق الناعم والدافئ كان يعكش شخصيتها الرقيقة المسالمة لابنة العشرين والتي لا تعادي أحد ولا تقحم نفسها في صراعات فنية ولذلك كانت علاقة عفاف راضي شديدة الحب و المودة مع كبار مطربي مصر فالكل كان يتعامل معها بحب ومودة مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ الذي كان حريصاً علي اصطحابها في حفلاته خاصة انه كان لا يخجل أمامها وهو يتناول الدواء و يتنفس صناعيا كلما اشتد عليه المرض . وكان حليم يقول عنها "أنا بسمعها بحس أني ليا أجنحه و عايز أطير". فاكتسبت ثقة الكبار و محبة الآخرين لها
الى الدرجة التي قال فيها الموسيقار رياض السنباطي عن صوتها:" كلما سمعت صوتها تشعر أنك تستنشق هواء نقي غير ملوث" تعاونت أيضاً مع كبار ملحني مصر مثل الموجي وسيد مكاوي ومنير مراد وكمال الطويل الذي قدم لها أرق وأعذب لحن وطني "مصر هي أمي" كما تعاونت مع عمار الشريعي في ألحان " بتسأل ياحبيبي" و "قالي تعالي" بل وقدمت معه ألبوم كامل لأغاني الأطفال من أشهر هذه الأغاني " سوسه" و"هم الممم" وتعاونت مع الأخوين رحباني في أكثر من أغنية.
وتبقى تجربتها السينمائية في فيلم" مولد يا دنيا" عام 1976 مع محمود ياسين وعبد المنعم مدبولي وإخراج حسين كمال أهم تجربة للسينما الغنائية في مصر حتى الأن وهذا الفيلم نافس في مدة عرضه وبقاءه في دور العرض في مصر فيلم حليم " أبي فوق الشجرة" حيث استمر عرضه لمدة 30 أسبوع في حين استمر عرض فيلم عبد الحليم حافظ 58 أسبوعا. والمفارقة أن الفيلمين من اخراج حسين كمال.
شكرا عفاف راضي على هذه الأمسية التي استعاد فيها الناس الثقة مرة أخرى في الغناء المصري في ليلة بانت فيها عفاف وغنت فأطربت وأبدعت بقيادة الموسيقار المايسترو سليم سحاب وشكرا لدار الأوبرا المصرية على تلك الليلة التي قدم فيها أصوات الاوبرا ياسر سليمان ومحمد متولي ورحاب مطاوع أغاني رشدي وحليم ووردة وأم كلثوم التي لحنها بليغ.. وكلنا أمل الا تختفي عفاف مرة آخرى وتدفع بالعصفورة الجديدة ابنتها الفنانة مي كمال التي تحمل نفس النغمة "العفافية" الجميلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة