النسيان نعمة كبيرة، قد لا ندرك أهميتها، أو نتجاهل فوائدها في حياتنا ومواقفنا وتعاملاتنا اليومية، لتظل واحدة من أهم النعم التي قد يمن الله بها علينا، فكيف نفارق الأحبة ونتجاوز الحزن إلا بالنسيان، كيف نتخطى المرض ونتعايش معه، ونرضى بنتائجه وما فعل فينا إلا بالنسيان، كيف نتجاوز الإساءة؟ كيف نرضى بالأمر الواقع ونبدأ من جديد؟!
النسيان حالة مهمة جداً، تمنحنا فرصة لاستكمال الحياة، والسير دون توقف أو ملل، فالعقل آليا يتخلى عن عشرات، بل مئات التفاصيل التافهة أو العادية، ثم يستغرق وقتا أطول نسبياً لتجاوز المحن الكبيرة، والتحولات الضخمة، التي سرعان ما تذوب جميعاً، بفضل النسيان، بل تتلاشي وتتحول إلى ذكريات وخبرات، دون أن تحمل الألم والدموع أو تدفعنا للتهليل والابتسام، كما كانت من قبل، لذلك لا يمكن أن نتصور حياتنا دون النسيان، فكما أن الذاكرة تمدنا بكل ما نحتاجه من معلومات، ونتعرف من خلالها على المواقف والأشخاص، وتمنحنا الخبرة وتعطينا النصائح والعبر بتلقائية شديدة، كذلك النسيان، ولك أن تتخيل أن الذاكرة توقفت عند مشهد قاتم أو صورة مشوشة، دون أن تتمكن من حذفه أو تجاوزه ووضعه في سلة المحذوفات، حينئذ لن نتمكن من استكمال الطريق، وسوف نعجز عن التحرك خطوة واحدة للأمام، بل ستصبح خطواتنا التالية مقيدة وحبيسة الماضي، وحينها بالطبع ستفقد عقلك أو قلبك أو كلاهما معاً، بعدما تصبح حياتك أحادية المشهد متكررة النتائج.
النسيان هو الحالة الوحيدة التي تتضاءل فيها المشكلات، حتى لو كانت عظيمة ومتطورة وشديدة التعقيد، حتى تتلاشى تصير إلى طريق الماضي، ونتذكرها فقط للاتعاظ والعبرة، قد نتأثر وتضيق صدورنا للحظات، ربما لدقائق، لكنها بفضل النسيان تعود الهمة مرة أخرى، ونستطيع استكمال الطريق، والبداية من جديدة مرات ومرات، لذلك علينا أن ندرك أن التذكر والنسيان وجهان لعملة واحدة، فكل ما تمر به في يومك العادي من وقائع وتفاصيل حلوة أو مرة، تتحول إلى دائرة النسيان المؤقت أو الدائم، فلا يمكنك أن تتذكر ماذا أكلت على العشاء منذ 10 أيام مضت، فهذه أحداث هامشية متكررة، تحذف دون عودة، لكنك تتذكر العشاء الفخم الذي أعده لك أحد الأصدقاء احتفالا بفوزك بجائزة، فمثل هذه الأحداث تعلق في الذاكرة ولا تمر بسهولة، حتى وإن تم تجاوزها مؤقتاً، لذلك فالنسيان لا يجور على ذكرياتك، ولا يتخلى عن أوقاتك الطيبة، بل يبقيها دائماً محفوظة، ويسعى بكل الطرق ليخفف من أوجاعك ويقلل من أحزانك ومتاعبك قدر الإمكان.
لا يمكن أن نتخيل العالم دون نسيان، ولا يمكن أن يستمر العقل في حركته وشغفه دون أن يتجاوز ويتحرر من لحظات وأوقات سعيدة أو حزينة أو مائعة بين هذه وتلك، لذلك يجب أن ندرك أن النسيان نعمة كبيرة لها علينا أفضال لا حصر لها، لذلك يجب أن نحترمه ونشكر القدير عليه، فأهميته لنا التي تتجاوز كل ما نتوقع، بل أحيانا أكثر ما نحتاجه يكون النسيان!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة