على الرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، واستحالة عودته نظريا، إلا أنه ترك "كابوسا" حقيقيا يطارد أحلام المعسكر الغربي، وخاصة دول أوروبا الرئيسية، ربما تجلى في العديد من المواقف السابقة، أبرزها التلويح بـ"فزاعة" موسكو بين الحين والأخر، من قبل القوى الدولية الرئيسية والتي تسعى لبسط سيطرتها على القارة العجوز، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي سعت إلى توسيع حلف "الناتو" في أوروبا الشرقية، مما أضفى انطباعا لدى حلفائها الغربيين بأن ثمة مخاوف أمريكية من عودة محتملة لـ"الشبح"، بينما كان وسيلة ضغط بريطانية، عبر إطلاق التصريحات المعادية، أو الاتهامات لموسكو، من أجل إحياء الخطر القادم من الشرق، على غرار قضية تسميم العميل الروسي المزدوج سيرجى سكريبال وابنته يوليا، والتي أطلقتها رئيسة الوزراء البريطانية قبل سنوات، في محاولة لتهدئة غضب "أوروبا الموحدة"، إثر خروج لندن من التكتل الأوروبي.
ولعل بقاء الاتحاد السوفيتى، وارتباطه بنفوذ بعض الدول، قد ظهر بوضوح منذ قبل التفكك بسنوات، وهو ما كشفته تسريبات عدة ظهرت بعده بسنوات، حول محاولات كبيرة من قبل رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر للتقريب بين الرئيس السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، والولايات المتحدة، بل ووصلت إلى حد اللجوء إلى السوفيت للتحرك من أجل منع الوحدة الألمانية، وهو ما يعكس إدراكها العميق، وقراءتها للمستقبل، حول الارتباط القوى بين دور بريطانيا القيادى، من جانب، وبقاء الكتلة السوفيتية من جانب أخر، وهو ما تحقق فعلا مع توارى لندن وصعود برلين، في سنوات ما بعد الحرب الباردة.
إلا أن إرهاصات النظام الدولي الجديد، على ما يبدو، أظهرت احتمالات جديدة لعودة "الشبح" السوفيتى، في ظل صعود موسكو كقوة فاعلة لا يمكن تجاهلها في كافة القضايا الدولية، ناهيك عن سيطرتها المطلقة على محيطها الجغرافى، وهو ما بدأ منذ الحرب الجورجية الروسية في 2008، والتي أسفرت عن خروج إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الإنفصاليين عن قبضة جورجيا، في تحد روسى غير مسبوق للغرب بقيادة واشنطن، منذ حقبة الحرب الباردة، ثم تكرر المشهد في أوكرانيا، عبر ضم شبه جزيرة القرم في 2014، لتكون تلك التحركات بمثابة إنذار من موسكو بعدم المساس بمناطق تمثل عمقا استراتيجيا لها.
التطورات الأخيرة تمثل حلقة جديدة من مسلسل "عودة الشبح"، حيث أصبح نطاق التحدي الذي تفرضه موسكو أكثر اتساعا، حيث كانت التجارب الأولى تمثل مواجهة مباشرة بين روسيا وجيرانها، وإن كانوا يحظون بالدعم الغربي، ولكن التدخلات الغربية على خط الأزمة لم تتجاوز التصريحات والتهديدات وبعض العقوبات التي تم الإعلان عنها من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي، في حين تتجاوز المواجهة الحالية حدود الأزمة مع أوكرانيا، وإنما تمتد إلى المؤسسات التي تمثل العمود الفقرى لـ"المعسكر الغربي"، وعلى رأسها الناتو والذى أعلنت روسيا عدم سماحها له بالتمدد في محيطها، وكذلك الاتحاد الأوروبي.
فلو نظرنا إلى المشهد الأخير في أوروبا الشرقية، نجد أن ثمة تحالفا صريحا بين روسيا وبيلاروسيا، ناهيك عن التدخل في كازاخستان، بالإضافة حالة الهلع لدى أوكرانيا، إثر المخاوف الكبيرة من وصول غضب موسكو إلى الذروة، ومحاولاتها للاستنجاد بالغرب دون جدوى، مما سوف يدفع في النهاية إلى محاولة الوصول إلى صفقة مع الروس من شأنها تفادى التصعيد بمختلف أوجهه، قد تؤدى في النهاية إلى التقارب فيما بينهما، مع الدور الباهت الذى يقوم به المعسكر الغربي على خط الأزمة المشتعلة، والذى لم يتجاوز التصريحات والتلويح بالعقوبات في تكرار صريح لمشهد القرم في 2014، دون تحقيق أي مكاسب تذكر لصالحهم.
وهنا نجد أن روسيا بالفعل تستعيد نفوذها بصورة ملحوظة في منطقتها إلى الحد الذى يعيد في الأفاق "شبح" الاتحاد السوفيتى، ولكن ربما بصورة مغايرة، عبر تحقيق التحالفات، والمقاربات في منطقتها، وربط مصالح الدول بها، لتتحول بوصلتهم نحو موسكو، بعيدا عن النظام الفيدرالي الذى ربما كان مدخلا للولايات المتحدة وحلفائها، لتفجيره من الداخل، خلال سنوات الحرب الباردة، مما ساهم في انهياره، لنصبح أمام كيان دولي جديد يمكننا تسميته بـ"التحالف السوفيتى"، بعيدا عن حالة الاتحاد التي كان عليها قبل أكثر من 30 عاما.