منذ عام 1960 يحاول الأدباء الشباب الجدد، أن يخترقوا الحاجز الذى هيمن على كتابة القصة القصيرة طوال عشر سنوات سابقة وغنية بالتجريب والتنوع والعطاء السردى القصصى والتوجهات الواقعية أو الرومانسية أو السيريالية وخلافه من التيارات التى تفجّرت بشكل متواتر ومتدافع، ذلك التواتر لم يأت عبثا، ولم يظهر عشوائيا، ولكنه جاء بعد تلك الحركات الفنية والأدبية والفكرية التى نهضت عاليا منذ بداية عقد الأربعينيات، وتشكلت فى إطارها وبفضلها جماعات أدبية وفكرية وسياسية ثورية، تنادى بالتغيير الشامل والكامل والجذرى فى شكل الكتابة والرسم والسينما على وجه الخصوص، وظلّ عقد الأربعينات يمور بأفكار جديدة، تلك الأفكار وجدت الطرق العديدة لكى تتجسد فى كل الفنون المتاحة من روايات وفن تشكيلى ومسرح، وبالأخص كانت القصة القصيرة مجالا واسعا لتطبيق تلك الأفكار، ولذا ظهرت أسماء قوية وجادة وجديدة، كان أبرزها يحيي حقى وسعد مكاوى وأمين ريان ومحمود البدوى وعبد الرحمن الخميسى وغيرهم.
إبراهيم أصلان
تلك الأسماء السابق ذكرها، عملت بشكل واسع على حرث الأرض بشكل واسع، وتقليب التربة عميقا للوصول إلى أشكال أكثر تعبيرا عن تلك المرحلة التى كانت الحرب العالمية الثانية بطلها الرئيسى والمهيمن، حتى أتى عقد الخمسينات، ذلك العقد الذى شهد تغيرات جذرية، ليكون المناخ مهيئا وملائما تماما لاستقبال كل جديد وجاد، ومع ظهور أسماء مثل صلاح حافظ ومحمد يسرى أحمد وأحمد رشدى صالح وإبراهيم عبد الحليم وعبد الرحمن الشرقاوى، وغير ذلك من مواهب قصصية جادة، صار الصراع على الجيد والمتنوع شديدا، حتى تم حسم الأمر لصالح اثنين من كتّاب القصة، الأول أصدر مجموعته القصصية الأولى (أرخص ليالى) فى أغسطس 1954، وهو يوسف إدريس، وكان خارجا من العمل الجماهيرى الثورى، ومشاركا فى الحركة السياسية اليسارية فى أعلى تجلياتها، والقاص الثانى صدرت مجموعته القصصية الأولى (العشاق الخمسة) فى ديسمبر من العام نفسه، وهو يوسف الشارونى، وقد كان يعمل بالتدريس، ومنغمسا فى قراءاته الفلسفية، كما أنه كان متأثرا بالأدب العالمى، وكان مدركا لتقنياته وتوجهاته، ولأن المرحلة كانت استقطابية بامتياز على المستوى الفنى والفكرى والسياسى والأيديولوجى بشكل حاسم، تم الانتصار لقصة يوسف إدريس التى داعبت توجهات المرحلة، والتى داعبت رجال الثورة، خاصة بعد أن نشرت له مجلة التحرير قصته "5 ساعات"، التى تحدث فيها عن الضابط عبد القادر طه، والذى تم اغتياله بواسطة الحرس الحديدى فى عهد الملك فاروق، وكانت هذه القصة مدخلا قويا لاستقطاب يوسف إدريس، والانتصار له بقوة، وهذا لا ينفى موهوبته العظيمة، وتجديده العبقرى فى مجال القصيرة، ولكنه كان الأقرب إلى الذوق العام، ذلك الذوق الذى كان يفضّل وينجذب إلى تلك السلاسة والمتعة التى تأتى بها قصص يوسف إدريس.
وعلى وترىّ يوسف ادريس ويوسف الشارونى، عزف كتّاب كثيرون، ونبتت أو ظهرت مواهب جديدة أخرى، مثل سليمان فياض وصبرى موسى وبدر نشأت وعبد الله الطوخى وصالح مرسى وأبو المعاطى أبو النجا وغيرهم، وفى أواخر عقد الخمسينات، نشأت موجة أخرى جديدة، لم تجد لها أى مساحة للتعبير عن نفسها، فظهرت مجموعة مشتركة لكتّاب جدد تماما، وأصدروا مجموعة قصصية مشتركة تحت عنوان "عيش وملح"، وقدّم لها العظيم يحيي حقى، ولا ننسى أن يحيي حقى ظلّ يقدّم هذا الجيل، وذلك لسببين، الأول يكمن فى اقتناعه الكامل بجّدة إبداعات ذلك الجيل الجديد، وهذا سبب موضوعى، أما السبب الآخر، فهو سبب ذاتى، وهو يكمن فى الإطاحة بريادته الحقيقية، وتجاهله على مستوى التجديد آنذاك، عندما قرر نقاد كثيرون جهيرو الصوت، وقالوا بأن القصة القصيرة الحقيقية لم تبدأ فى مصر، إلا على يد يوسف إدريس، أما قبل ذلك، فالقصة القصيرة كانت مخملية ومنشغلة دائما بقصص الفراش والمخادع وهكذا، ولذا سعى يحيي حقى من أجل إبراز ذلك الجيل بكل ما يملك من قوة ونفوذ موضوعى، ولكى يقول أن هناك أصواتا أخرى بدأت تدق أبواب القصة القصيرة، فاقرأوها، وأنصتوا إلى إيقاعها.
فى النصف الأول من عقد الستينيات بدأت أسماء قصصية شابة تظهر، مثل محمد البساطى ويحيي الطاهر عبد الله وبهاء طاهر وجمال الغيطانى وإبراهيم أصلان، الذى نشر أول قصة له ذات ملامح فنيّة مكتملة عام 1964، وهى قصة الدرب والعالم، فى مجلة "الثقافة"، ولم ينشرها فى أى من مجموعاته القصصية التى بدأت بصدورمجموعته الأولى "بحيرة المساء" عام 1971، وبين عامى 1964و1971تم الاحتفاء بإبداع ابراهيم أصلان بشكل لم يحدث من قبل، ولم يحدث من بعد أيضا، وذلك لأن صوت إبراهيم أصلان كان صوتا شديد التميز، يقوم على الكثافة التعبيرية والاقتصاد اللغوى والابتعاد تماما عن الغنّة - إذا صح الوصف - التى كانت تميّز كثيرا من أصوات سابقة، أو معاصرة له، كما أن قصة إبراهيم أصلان عملت على الانجراف العاطفى الذى كان يعمل بقوة فى كثير من إبداعات تلك المرحلة.
بحيرة المساء
وفى عدد تاريخى أصدره يحيي حقى من مجلة "المجلة"، والتى كان يرأس تحريرها، جمع فيه الأدباء الشباب الجدد، وفى قلبهم كان إبراهيم أصلان، وكانت قصته "بحيرة المساء" البديعة، وهى إحدى القصص التى عملت بقوة على كسر ذلك الانسياب الحكائى المرسوم بدقة، فالقصة تقول بأن فريقين من الشباب يجلسون على مقهى، وهناك حوارات جانبية ومباشرة مقتضبة للغاية، والجرسون يذهب ويجيئ حاملا المشروبات، وكذلك البيرة المثلجة، ويتضح من بطل القصة المتحدث أنه كان ضجرا للغاية، ولذلك كانت عباراته مكثفة، وقاصرة على الإيجاب بنعم أو لا، فضلا عن بعض أسئلة بسيطة، وهناك من يلعبون الطاولة، وتدور حوارات هادئة، ولكنها كانت تحمل هموما ثقيلة، وتختلط العبارات بين "شيش بيش، ودو يك،" بالعبارات التى تحمل تلك الموم الثقيلة، ومن ثم يريد الكاتب أن يرسل تلك الهموم الثقيلة دون أى صراخ، وفى إيقاعات هادئة، وهذه هى السمة التى جاء بها ابراهيم أصلان فى باكورة إبداعاته القصصية، تلك السمة التى ظلّت ترافقه فى كل ما كتب، أى يرسل كل ما يريد أن يقوله من أحداث أو مشاعر جمة، ولكن فى لغة هادئة ومكثفة ومرتبة، ولا تهمه تلك الحكاية المرسومة أو المنمقة.
واحتفى بالقصة فى العدد نفسه الناقد شكرى محمد عياد بمقال طويل، متوقفا عند بعض السمات الخاصة بالكاتب الشاب، وأنهاه كاتبا: "هذه قصة جيدة، وهى أول قصة أقرؤها للكاتب الشاب إبراهيم أصلان، فليحرص على تنمية موهبته، وليكن دائما أصيلا وصادقا، لقد أعجبنى من هذه القصة أن الكاتب لا يحاول أن يصطنع الحداثة كما يفعل كثير من كتّاب القصة الشباب".
ولم يتوقف الاحتفاء بإبراهيم أصلان وبقصصه، ففى أغسطس 1969، صدر عدد خاص من مجلة الهلال عن القصة القصيرة، وكتب الناقد عبد الرحمن أبو عوف مقالا خصّ فيه ثلاث قصص لإبراهيم أصلان، وهم "بحيرة المساء، ولأنهم يرثون الأرض، ورائحة المطر"، ولم يكن أصلان قد أصدر مجموعته الأولى بعد، ووصف أبو عوف القصص بأن الكاتب مغرم بهوامش وندوب جوانب السلوك الإنسانى، بكل شروخ عدم التعادل، وافتقاد الاطمئنان، وهو ينساق فى اختياراته برغبة دفينة تقطر حزنا قاتما، ربما يصبح لونا لمعظم الصور التعبيرية، وإيقاعا فى تركيب الجمل وتكوين المقاطع، والعبارات المتساءلة.. "ويسترسل"..إننا نجد فى القصص جوّا نفسيا وفكريا ربما لا يخلو من التنوع.."، وكان مقال أبو عوف شديد الاحتفاء بقصص أصلان.
وبعد عام آخر، أى فى أغسطس 1970، تصدر مجلة الهلال عددا جديدا خاصا أيضا عن القصة المصرية القصيرة، وتنشر لأصلان قصة "المستأجر"، وكذلك يكتب الناقد شوقى خميس دراسة عن حاضر القصة القصيرة، ويخص قصة إبراهيم أصلان "بحيرة المساء" بكلمات جديدة، إذ يقول خميس: "بهذه القصة لإبراهيم أصلان ننتقل إلى تيار اللاواقعية، وهى تجسّد لنا لحظة اجتماع قصير لمجموعة من الأصحاب فى مقهى من وجهة نظر الراوى صديق أحدهم.."، ورغم أن الناقد يرصد بعض ملاحظات سلبية، إلا أن الاهتمام بالقصة وتشريحها يعنى أن القصة قد أثارت جدلا واسعا، حتى بين المختلفين معها، وأصحاب وجهة النظر الواقعية التى تكرّس لتمجيد الماضى بشكل واضح.
وعندما صدرت مجلة "جاليرى 68" الطليعية فى مايو 1968، نشرت فى عددها الأول قصة "لأنهم يرثون الأرض"، وأصدرت المجلة عددا خاصا عن القصة المصرية القصيرة فى يوليو 1969، ونشرت قصته "فى جوار رجل مريض"، ولم تكتف إدارة المجلة بذلك، ولكنها فى عدد فبراير 1971 أعدت ملفا فى غاية الأهمية عن إبراهيم أصلان، وهذه هى المرة الأولى التى تعد فيه مجلة أدبية ملفا كبيرا عن كاتب لم يصدر له أى كتاب، وهذه واقعة مهمة فى تاريخ الصحافة الأدبية والثقافية فى مصر، وأظنها لم تتكرر بعد ذلك، ونشرت فيه خمس قصص له: "الجرح، الرغبة فى البكاء، التحرر من العطش، البحث عن عنوان، المقهى القديم"، وكان هذا الاحتفاء فريدا من نوعه، ولفت الانتباه إلى أهمية هذا الكاتب الاستثنائى، والذى بدأ كبيرا دون أى صخب أو هتافات من فريق سياسى أو غيره، كاتب شق طريقه بإبداعه فقط، وأفردت المجلة ثلاث دراسات نقدية فى العدد، لثلاثة نقاد من أبرز النقاد فى ذلك الوقت وأكثرهم طليعية، وهم: إدوار الخراط، غالب هلسا، خليل كلفت.
تنوعت قراءات النقاد الثلاثة، وذلك حسب التوجهات النقدية والفكرية لكل منهم، فذهب الخراط إلى أن ابراهيم أصلان ينتمى لجيل يحب أن يطلق عليه "جيل 68"، ويقدم الخرّاط قراءة متأنية ورصينة، مشيدا بالحوار المكثف والمقتضب واللافت، رغم العنصر السيريالى الذى يسم القصص فى كثير من أجزاءها، ويتوقف عند كيفية البساطة التى ينحو إليها إبراهيم فى سرد موقف معقد، فالقصص تخلو من ذلك الزعيق الذى ألفناه فى التراث القصصى، مصريا كان أو عربيا، أما غالب هلسا، فيذهب إلى أن قصص ابراهيم أصلان تكشف عن عالم غريب وطعم خاص لا تجدهما عند غيره من الكتاب، أما خليل كلفت فيعتبر قصص ابراهيم أصلان من العلامات المضيئة فى تاريخ وتطور القصة القصيرة المصرية.
هذا الاحتشاد الذى حدث لإبراهيم أصلان، عشية أو قبيل صدور "بحيرة المساء"، كان حدثا عظيما، واستشرافا لمستقبل كاتب عظيم اسمه ابراهيم أصلان.
عندما صدرت مجلة صباح الخير فى يناير 1956، أنشأ إحسان عبد القدوس بابا ثابتا فى المجلة تحت عنوان "حكاية"، وكانت رسومات صلاح جاهين ترافق كل حكايات إحسان، وكانت تلك الحكايات تنحو نحو الكثافة الشديدة، وفى سياق آخر، نشرت حوالى عشرين قصة لإحسان من تلك القصص، وبعد عامين تقريبا من النشر، بدأت أسماء أخرى تتناوب على ذلك الباب، منهم فتحى غانم، ولويس جريس، ومفيد فوزى، وصبرى موسى، ثم جاء علاء الديب لينشر فيه عددا كبيرا من هذه الحكايات، وحكى لى إبراهيم أصلان، أن علاء الديب اقترح عليه أن يعمل صحفيا فى مجلة صباح الخير، وهكذا التحق جمال الغيطانى بدار أخبار اليوم، والتحق خيرى شلبى بمجلة الإذاعة والتلفزيون، دون أن يكون لديهما مؤهلات جامعية وصحفية، وعمل كثيرون غيرهما فى الصحافة بهذه الطريقة، وكان أصلان فى ذلك الوقت عام 1968، يعمل فى الهيئة القومية للاتصالات، وبعد أن نشرت له المجلة بعض المواد، منها مقاله عن رواية "السائرون نياما" لسعد مكاوى، وقد أعدت نشره فى كتابى "خلوة الكاتب النبيل"، ثم نشر بعض قصصه التى ضمتها مجموعته الأولى "بحيرة المساء"، وهناك قصص لم ينشرها، وقد ضاعت منه، وكنت قد اتفقت معه فى حضور العزيز هشام الكاتب الصحفى أن نجمع تلك القصص وننشرها فى كتاب مستقل، تحت عنوان "القصص الأولى"، وقد تصل تلك القصص إلى حوالى عشرين قصة، منهم تلك القصة القصيرة جدا، والتى نشرها فى أغسطس عام 1968 تحت وصف "حكاية قصيرة جدا"، وها هى القصة:
الترولى باس
فى "التروللى باس" كنت أريح ظهرى على الحاجز الحديدى الممتد حول مقعد السائق.
وعندما اقتربنا من محطة "عمر الخيام"، تقدمت فتاة وقبضت بيدها على العمود الحديدى المغطى بطبقة من البلاستيك الرمادى، الممتد من درجة السلم حتى السقف المعدنى العالى، والذى يقسم فراغ المدخل إلى قسمين، كما تقدم الرجل الذى يقف على يسارى، وقبض بيده الأخرى على نفس العمود.
كانت المسافة بين جسد هذا الرجل وجسد هذه الفتاة مسافة واضحة، والمسافة بين يده الكبيرة المحمرة، ويدها الصغيرة البيضاء، مسافة إصبع أو إصبعين، وقبل أن يقف "التروللى باس"، رأيت الخنصر المحمر وهو ينفرج بعيدا، واليد الكبيرة وهى تنحدر رويدا، ثم الإصبع وهى تلتف حول إبهام اليد الصغيرة البيضاء، وشعرت بهذه اليد وهى توشك أن ترتد إلى أسفل، وشعرت بها وهى تتردد، ثم رأيتها وهى تظل، والوجه البيضاوى وهو يلتفت إلى الوجه الأسمر، والنظرة السريعة المتأملة، وعندما توقف "التروللى"، وانفتح الباب، هب الهواء وشعرت بالبرودة، ونزل الاثنان.
كان هناك بعض الناس يقفون على رصيف المحطة المبتل، أسرعت الفتاة أمامهمن ودار هو من خلفهم.
وعندما تجاوزتهم قليلا، تمهلت.
وكان هو قد لحق بها، واقترب منها تحت الأشجار، وسار إلى جوارها.
وراح "التروللى باس" يأخذنى ويبتعد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة