دعوات تمتد لعقود طويلة، بإصلاح المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، عبر مقترحات، دارت كلها في فلك واحد، وهو تعديل المواثيق، بل وارتكزت على نقاط رئيسية، ارتبطت في جوهرها بنظام التصويت، فيما يتعلق بالقرارات، لضمان قدر من الحيادية، خلال مناقشة القضايا الدولية، والنأي بها من اتهامات تطلقها أطراف هنا أو هناك بخدمة مصالح قوى بعينها، على غرار دعوات صريحة بإلغاء حق الاعتراض، والمعروف بـ"الفيتو"، في مجلس الأمن الدولي، وأخرى بتوسيعه، عبر زيادة الدول التي تحظى بالعضوية الدائمة، وذلك لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن عند مناقشة الموضوعات الهامة، إلا أنها باءت بالفشل، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى طبيعة النظام الدولي، خاصة في أعقاب الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وما نجم عن ذلك من هيمنة مطلقة لواشنطن، في الوقت الذي غاب فيه عن المشهد قوى أخرى يمكنها مزاحمتها.
ولعل مصر كانت جزءا رئيسيا من دعوات الإصلاح، عبر مقترحات أطلقها الأمين العام المصري الوحيد للمنظمة الدولية، الدكتور بطرس غالي، حيث ارتكز في رؤيته على تفعيل الدبلوماسية الوقائية، وكيفية بناء السلام وحفظه، في مراحل ما بعد الصراع، كما تلته محاولات أخرى، سواء من خليفته كوفي عنان أو بان كي مون وغيرهم، إلا أن كافة المحاولات لم تتجاوز في جوهرها الميثاق، وبالتالي لم تحقق تغييرا كبيرا، سواء في عمل المنظمة أو فاعليتها، وهو ما تجلى في أبهى صوره، عبر العديد من المشاهد، التي تجاهلت فيها القوى الدولية الكبرى قراراتها، ربما أبرزها غزو العراق في 2003، حيث اتخذت واشنطن خطوتها رغم رفض مجلس الأمن، لتشكل تحالفا شكليا، مع كلا من بريطانيا وفرنسا، يمنحها قدرا من الشرعية الدولية، بينما تواترت الانتهاكات الدولية للقرارات الأممية بعد ذلك مرات عدة، خاصة في حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذى هدد بالانسحاب منها.
إلا أن الحديث عن تراجع دور الأمم المتحدة، ومن ورائها المنظمات الدولية الأخرى، ربما تجلى بعد ظهور وباء كورونا، والذى أظهر أن الحاجة إلى الإصلاح تتجاوز، في جوهرها مجرد تعديل المواثيق الحاكمة لها، وإنما في حقيقة الأمر تمتد إلى الدور الذي تلعبه المنظمة الأم، والمنظمات الأخرى التابعة لها، سواء كانت إقليمية أو متخصصة، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن مثل هذه الأزمات تمثل تهديدا صريحا للسلم والأمن الدوليين، وهو الأمر الذى يمثل الهدف الرئيسي الذى خلقت من أجله تلك المنظمة، بعيدا عن التسييس.
ربما كانت أزمة الوباء، ومن قبله قضية التغيرات المناخية، بمثابة أمورا كاشفة، لحقائق عدة، أبرزها تغير طبيعة التهديدات التي تواجه السلم والأمن الدوليين، بالإضافة إلى عدم قدرة المنظمات الدولية على مواكبة تلك الأزمات والتعامل معها بفاعلية، لتتحول الحاجة إلى الإصلاح من مجرد تعديل المواثيق، إلى إعادة النظر في الدور الذى تلعبه، عبر الاهتمام بالقضايا الملحة التي ترتبط مباشرة بالإنسان، بعيدا عن اللون أو الجنس أو الدين أو الجنسية، دون تسييس، أو العمل على تحقيق مصلحة قوى دولية معينة على حساب الدول الأخرى، وهو الأمر الذي يمثل الركيزة الأساسية للرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، في عهد الجمهورية الجديدة، وسبق أن أعرب عنها صراحة الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال منتدى شباب العالم في 2019، عبر دعوته إلى تطوير آليات العمل في الأمم المتحدة، مستبقا ما يمكننا تسميته بـ"توحش" الوباء، في انعكاس صريح لقراءة متأنية للمشهد الدولي.
الرؤية المصرية لإصلاح الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة، ومن ورائها المنظمات الدولية الأخرى، تقوم في الأساس على الانحياز للإنسان، بعيدا عن حسابات السياسة والمواقف من الدول، عبر القيام بدور من شأنه تحقيق التنمية في الدول الفقيرة، ومكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، والمخدرات، ومنع نشوب الحروب، ومجابهة الأزمات والأوبئة، مع توغل هذه التحديات، وعدم اقتصارها جغرافيا على دول أو مناطق بعينها، ولكن امتدادها لتكون بمثابة تهديدات عابرة للقارات، حيث يبقى مثل هذا الدور بمثابة ضمانة رئيسية لاستعادة المكانة الكبيرة، بل والأهم من ذلك الثقة الدولية، لمثل هذه المنظمات، بعيدا عن محاولات بعض القوى الحاكمة في العالم لتطويعها من أجل تحقيق مصالحها واستخدامها لإضفاء الشرعية على تحركاتها التي تصل أحيانا إلى حد انتهاك مبادئ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
وهنا يمكننا القول بأن المنظمات الدولية، تبقى في حاجة إلى خلع، أو على الأقل تنحية، عباءة السياسة، ولو مرحليا، عبر الانغماس في الأزمات التي تمثل تهديدا مباشرا للبشر حول العالم، والسعي لتحقيق اختراقات كبيرة فيها، وهو الأمر الذى لا يقتصر على تقديم المساعدات المالية، وإنما يمتد إلى العمل الدؤوب على تحقيق تنسيق حقيقي مع الدول الكبرى، من أجل إنقاذ العالم من الكوارث المحيطة به، والتي تشهد تغييرا جذريا، بعيدا عن الصراعات التقليدية، سواء الأهلية أو الدولية، إلى صراعات من نوع أخر، سواء مع عصابات من المجرمين والإرهابيين يجيدون حروب الشوارع، والتي تبقى في حاجة إلى رؤى جديدة وغير تقليدية في التعامل معها، أو فيما يتعلق بـ"الصراع مع الطبيعة"، في ظل العجز عن السيطرة على وباء كورونا، أو مخاوف ظهور أوبئة جديدة، ناهيك عم أزمة التغيرات المناخية وما تمثلة من تهديدات صريحة للبشرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة