"الركود الاقتصادي هو عندما يفقد جارك وظيفته، بينما الكساد حينما تفقد أنت شخصياً وظيفتك"، رونالد ريجان، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1981 حتى 1989، ويحاول في هذه العبارة تبسيط مصطلحي الركود والكساد، بعيداً عن التعقيدات النظرية، والبيانات الإحصائية، لذلك أرى أن الأهم في الوقت الراهن توصيف الوضع بأن هناك مشكلة اقتصادية كبيرة تخيم على العالم كله، وأبرز وأهم ملامحها أنها بلا حلول حتى الآن.
كل القرائن تقود إلى أن العالم في سنواته المقبلة سيعاني ركوداً ممتداً، وهو ما يعرف علمياً بالكساد، فالركود لا يستمر لأكثر من ربعين ماليين متتالين من النمو الاقتصادي السلبي، يعنى 6 أشهر، أو ربما عام في أسوأ التقديرات، لكن إذا طالت المدة فهذا يُعرف بالكساد، وعلى طريقة رونالد ريجان، يمكن أن نفسر فكرة الكساد بالمثال التالي:" لو أنك تشتري من أقرب سوبر ماركت نوع معين من "الجبن"، وخلال الأشهر الماضية بدأت تتحرك أسعاره في أرقام مختلفة، حتى تضاعف سعره 3 مرات تقريباً على مدار عام واحد، فكان قرارك النهائي التراجع عن شراء هذا النوع من الجبن، والتحول لآخر أقل سعراً، أو التخلي عن الجبن تماماً والاستعاضة عنها ببدائل أخرى، فتصبح النتيجة المباشرة تأثر خطوط الإنتاج، وإغلاق بعضها، وتعطيل خطط التوسع، والتخلي عن جزء معتبر من العمالة، وأخيراً يأتي دور السوبر ماركت الذى بالطبع ستقل حجم مبيعاته ويتخلى عن بعض العمال، أو قد يغلق أبوابه تحت وطأة تراجع الأرباح".
أتصور أن العام 2023 هو البداية الحقيقية للركود الاقتصادي حول العالم، وقد بدأت الآثار تتجلى يوماً بعد الآخر، وإذا أردت أن تعرف فعليك أن تتجه إلى "الهايبر ماركت" والأسواق المفتوحة التي تبيع عشرات الأنواع من السلع، ستجد أنها تمتلئ بالمعروض من البضائع، لكن معدلات الشراء بدأت في الانخفاض، وبات حجم الإنفاق على هذه السلع أقل مما سبق، أو بمعنى أدق لم ترتفع مستويات السيولة لدى الناس بالقدر الذى يواكب الارتفاعات التي طالت الأسعار، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى نقص المبيعات، وتراجع معدلات النمو.
بشكل شخصي أتولى شراء احتياجات المنزل الأسبوعية بصورة منتظمة، وما لاحظته خلال الفترة الماضية أن الكثير من المستهلكين باتوا يمضون أوقاتاً أطول خلال عمليات الشراء، نتيجة أن الكل يحاول توفيق أوضاعه، وحساب فروق الأسعار وتأثيراتها المباشرة على حجم الإنفاق العام والأعباء المنزلية الشهرية، وقد تجد بعضهم أحياناً يقترب من السلعة ويمسكها، ثم يتركها ويعيدها إلى الأرفف مرة أخري، بعدما يقلب كفيه على ما كان يُنفق فيها قبل شهرين أو ثلاثة، خاصة السلع والمنتجات الغذائية، التي تتحسس زيادات الأسعار بصورة مباشرة، لذلك صارت النسبة الغالبة تحاول تقليل احتياجاتها بالصورة التي يمكن معها الاستمرار دون استدانة حتى نهاية الشهر.
الركود الاقتصادي في الحالة المصرية، قد تكون له فوائد هامة رغم خسائره الحادة، وقد يصلح ما أفسده الدهر في سلوكيات البعض، فسوف يقضي على الاستهلاك الترفي إلى غير رجعة، ويجعل كل مواطن لا يشترى إلا ما يحتاج فعلياً من السلع والمنتجات وسلة الغذاء، ويقلص الفواقد إلى أقل نسبة ممكنة، بعدما كانت معدلات إهدار الطعام في أعلى مستوياتها، نتيجة العادات الغذائية الخاطئة، التي توارثتها الأجيال، فالكل يسعى لا محالة لتقليل فواقده، وحصر احتياجاته الفعلية، حتى يتمكن من تغطية نفقاته.
واحدة من سمات الركود في الحالة المصرية أنه سيضرب كل محاولات الاحتكار وتخزين السلع إلى غير رجعة، فلن يُقبل أحد على تخزين سلعة ارتفعت أسعارها إلى الضعف، وبات حجم استهلاكها أقل بنسب معتبرة قد تصل من 20 إلى 25% ، حتى وإن ظهر تكالب عليها في الوقت الراهن، ارتباطاً بالمراحل الأخيرة لذروة التضخم التي يشهدها العالم، لكن خلال الأشهر المقبلة لن يُقدم أحد على تخزين سلع أو منتجات، ولن يشتري إلا ما يحتاجه من السلع الضرورية، وسوف يتخلى بصورة جزئية أو كلية عن مستويات الرفاهية السابقة، كلٌ حسب ملاءته المالية وقدرته على الإنفاق وحجم ما يتوفر لديه من سيولة وموارد.
ما سردته في الفقرتين السابقتين لا يعني أن الركود جيد أو يحمل الخير للمجتمعات النامية، بل على العكس تماماً، فالنتائج السلبية التي سوف تتجلى على مستوى المشروعات الصغيرة والمتوسطة غير محمودة العواقب، خاصة التي تعمل في الأنشطة التجارية الاستهلاكية، فلن تتحمل هذه المشروعات أزمات التسويق وتراجع المبيعات وارتفاع تكاليف الإنتاج، كما أنها غير قادرة على دعم أنشطتها بالسيولة اللازمة أو النمو السالب لفترات طويلة، ارتباطاً بطبيعتها التي تقوم على قصر دورة الإنتاج والعمالة الكثيفة والنشاط اليومي، بما يؤثر بصورة مباشرة على ارتفاع معدلات البطالة وتقلص حجم السيولة الموجودة، فلن يصمد في الأزمات العاتية سوى المؤسسات الكبيرة القادرة على التحوط والتخلي عن جزء من أرباحها في مقابل الاستمرار والبقاء في الأسواق.
الحلول في أزمة الركود أو الكساد القادم على أسوأ الظروف تبدأ من الفرد ذاته، ولا ترتبط بإدارة حكومية أو تحركات جماعية، فإن كان التحوط من جانب الحكومة مطلوب عن طريق توفير السلع والمنتجات في الأسواق، لكنها لن تتمكن من وضع تسعيرة جبرية للمنتجات، أو تفرض أسعاراً بعينها في سوق حرة، تحكمها معايير العرض والطلب، لكن المستهلك ذاته هو من في يده ضبط احتياجاته بالصورة التي يمكن من خلالها تجاوز الأزمة، والنصيحة لأصحاب الأعمال والمستوردين ورجال الصناعة والتجارة أن يبيعوا بهوامش ربح معقولة، حتى لا تشملهم نار الركود، ويتخلى المستهلك عن بضاعتهم ويعتاد على ذلك، وهذا يتطلب وعي حقيقي، فالمكاسب الوقتية لن تدوم، خاصة إذا قرر المستهلك التخلي عن السلعة أو الخدمة التي لم يعد بإمكانه توفيرها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة