هدد قنصل إنجلترا فى مصر محمد على باشا بإحراق مدينة الإسكندرية، وجاء التهديد متزامنا مع مظاهرة بحرية إنجليزية بالسفن الحربية أمام المدينة.. قال «القنصل» إنه سينفذ التهديد إذا لم يسحب «الباشا» جنوده من سوريا، ويرد الأسطول التركى إلى الباب العالى، ولو فعل ذلك ستكفل له إنجلترا حكم مصر بالوراثة، وفقا لما يذكره عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»، مضيفا: «رد «الباشا» على تهديد القنصل «نابييه» بقوله: «احرقوها، احرقوها»، فانسحب لكنه أمهل محمد على 24 ساعة ليقرر رأيه الذى سيستقر عليه.. يذكر «الرافعى»، أن «الباشا» رأى من الحكمة السياسية أن يجنح إلى السلم ويقبل العرض، وانتهى الأمر إلى عقد اتفاق يقضى بأن يجلو الجيش المصرى عن سوريا، ويرد محمد على الأسطول التركى إلى الباب العالى، مقابل تخويله ملك مصر الوراثى بضمانة الدول الكبرى، وفور عقد الاتفاق أرسل «محمد على» إلى ابنه إبراهيم يأمره بالجلاء عن سوريا والعودة إلى مصر.
هى قصة القضاء على إمبراطورية محمد على والتى شملت بلادا عديدة فتحها بجيوشه، وكان التصميم على قصقصة ريشه قرارا دوليا اتخذته الدول الكبرى وقتئذ.. يذكر الدكتور عبدالرحمن زكى، فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير»: «اتفقت إنجلترا، وروسيا على تحطيم قوة مصر الخارجية وانتزاع الشام من محمد على وحرمانه من فتوحاته التى أنفقت مصر فيها أموالها ودماء أبنائها تسع سنوات».. يضيف: «عجل بالمرستون «وزير خارجية بريطانيا» بالاتفاق مع مندوبى روسيا والنمسا وبروسيا على الوقوف فى وجه محمد على، وأمضوا معه فى لندن معاهدة 15 يوليو 1840، وأهم شروطها تتلخص فى أنه إذا خضع محمد على فى خلال عشرة أيام، ورد كريت والأماكن المقدسة ببلاد العرب وأدنة والشام، أعطته الدولة العثمانية ولاية مصر وراثية وولاية عكا مدة حياته، وإلا أخضعته الدول بالقوة ونظرت فى أمره من جديد».
يضيف زكى: «رفض محمد على هذه الشروط، وكادت تشتعل الحرب من جراء المسألة المصرية، وذهبت فى أثناء ذلك أساطيل الحلفاء وحاصرت سواحل الشام ثم استولت عليها، وانتشرت الفتن فى الشام ولبنان، بفضل رجال المخابرات الإنجليزية، فاضطر محمد على أن يرسل لابنه أمرا بالانسحاب من الشام».. يذكر «الرافعى»، أن إبراهيم باشا أذعن لأمر أبيه، وبدأ فى رحلة العودة بجيشه فى منتصف ديسمبر 1840، وأخلا مدينة دمشق، وكان عدد الجيش وقتئذ نحو 70 ألف مقاتل يتبعهم عدة آلاف من أفراد الأسر والبيوت المصاحبة للجيش من الموظفين وغيرهم، ولاقى الجنود والملكيون متاعب هائلة فى انسحابهم لما أصابهم من الإعياء والجوع والعطش والتعب فى قطع المسافات الشاسعة، وما تحملوه من نقل المهمات والمدافع، ومات كثير منهم فى الطريق.
يضيف «الرافعى»: «سار الجيش فى انسحابه إلى «المزيريب» شرقى بحيرة طبرية، ومن هناك توزع إلى ثلاثة فيالق، أخذ كل فيلق طريقا إلى مصر، فالفيلق الأول وهو مؤلف من المشاة والخيالة النظامين، أخذ سبيله بطريق غزة فالعريش، وكان يقوده أحمد المنكلى باشا، والفيلق الثانى بقيادة سليمان باشا الفرنساوى وكان مؤلفا من المدفعية، سار بطريق الحج إلى معان ومنها إلى العقبة فالنخل فالسويس، والفيلق الثالث وكان مؤلفا من جنود الحرس وفرسان الهنادى والباشبوزق بقيادة إبراهيم باشا، اتخذ سبيله إلى غزة ومنها بحرا إلى مصر».
يؤكد «الرافعى»: «راح العديد من قوام هذه الفيالق ضحية الأهوال فى الطريق، وفقد فيلق «المنكلى باشا» نصف رجاله بسبب الجوع والعطش ومناوشات العربان، وفقد فيلق «سيلمان باشا» الذى عاد من طريق معان والعقبة نحو ألف وخمسمائة، ومات عدد كبير من فيلق إبراهيم باشا وشمل جنود وموظفين ونساء وأطفال، ولما وصل إلى غزة طلب من أبيه إمداده بالمؤن والملابس والسفن لتنقل الجيش بحرًا إلى الإسكندرية، وأخلى غزة يوم 19 فبراير، مثل هذا اليوم، 1841، ليتم بذلك إخلاء الجنود المصريين من سوريا، وينتهى الحكم المصرى للشام بعد عشر سنوات من قيامه».
تذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «الحكم المصرى فى الشام -1831 1841»: «مثلت العودة المأساة الحقيقية للقوات المصرية، إذ فقد منها ثلاثون ألفا غير المدنيين، ما بين الجوع والعطش والإرهاق والمرض والتعرض لهجوم البدو ووعورة الطريق، وتركت الأقدام المصرية غزة فى 19 فبراير 1841، بعد أن عاشت على أرض الشام حوالى عقد من الزمان، تركت فيها البصمات الواضحة التى سجلها التاريخ، وحفظ فيه فترة غمرتها العدالة وسادها النظام، وغطاها التسامح، وصدت عنها الأطماع الأجنبية، وأعطتها التقدم ووهبتها النهضة، وعملت على رقيها، وسرعان ما انقلبت تلك الأوضاع إلى نقيضها عقب الرحيل المصرى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة